هل ينبغي على
الصين الانخراط في العولمة المالية؟
سمير أمين
(1) أوجه العولمة الثلاثة :
للعولمة ثلاثة
أوجه تتلخص في: (أ) التجارة العالمية الحرة؛ (ب) حرية الاستثمارات الحقيقية لرأس المال
الدولي؛ (ج) حرية المعاملات المالية في الأسواق المالية الدولية (تحويلات رؤوس
الأموال السائلة بما فيها التعاملات على النقد الأجنبي). ويُفترض أيضًا أن تكون كل
هذه الأسواق مفتوحة حقًا، والمعاملات "شفافة"، ومن ثم تكون المنافسة
واقعًا فعليًا. وفوق ذلك تفترض الأدبيات الكثيرة التي تناولت العولمة كون هذا
الواقع "اقتصاديًا" خالصًا ومستقلاً تمامًا عن الغايات السياسية/
الاستراتيجية التي تقتفيها الدول الكبرى على الساحة الدولية، وبالأخص الولايات
المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال يعتبر "نيجري"- لذلك السبب- أن
"الإمبريالية" لم تعد موجودة، وأنها أصبحت من التاريخ، وحلت محلها
"إمبراطورية" لا مركز لها (راجع: Hardt and Negri,
Empire, 2000; Samir Amin, Empire and Multitude, Monthly Review, NY, vol 57, N°6, nov 2005). لكن مجمل هذه الافتراضات تخفي بعض الحقائق
الرئيسية في الواقع.
من المتحكم فيما تُسمى
السوق النقدية والمالية العالمية المندمجة؟
رأى دينج سياو
بنج أنه ينبغي علينا الانطلاق من تمعن الحقائق الفعلية. وهو بالضبط ما لم يقم به
"الاقتصاديون" المحترفون التقليديون، جميعًا بمن فيهم
"الخبراء" الصينيون الذين تلقوا تدريبهم في الولايات المتحدة وتعرضوا
لغسيل الدماغ.
فقد صاغ
الاقتصاديون التقليديون "نظريات" بشأن ما يسمونه "المنافسة الحرة
والشفافة"، بما فيه المنافسة في السوق المالية العالمية، وهي نظريات مبنية
على عالم متخيَّل تمامًا لا صلة له بواقع النظام الرأسمالي القائم. وهم ينطلقون جميعًا
من الافتراضات الآتية: (أ) أن ملايين "الأفراد" ينشطون في السوق؛ (ب) أن
جميع هؤلاء "عقلانيون" ويشتركون في "التوقعات العقلانية"
لحركة الأسواق؛ (ج) وأنهم يستندون في عقلانية قراراتهم على المعلومات الصحيحة
الشفافة.
ولا يعكس أي من
تلك الافتراضات العالم الواقعي: فالرأسمالية المعاصرة تحكمها حفنة قليلة من
التكتلات العملاقة (الاحتكارات المالية) التي تتحكم في إنتاج السلع والخدمات
الرئيسية، المصارف، شركات التأمين..الخ، والتي أخضعت أولئك الفاعلين المستقلين
ظاهريًا (الفلاحين، المشروعات الصغيرة ومتوسطة الحجم) لوضعية مقاولي الباطن، ومن
ثم ضخ الفوائض التي ينتجونها لصالح الريوع الاحتكارية المتنامية (راجع: Samir Amin, The implosion of Contemporary
Capitalism; Pluto 2004).
ففيما يتعلق
بالسوق المالية العالمية المندمجة يتحكم حوالي عشرين بنكًا عملاقًا (تتمركز جميعًا
في الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الرأسمالية الرئيسية المشترِكة في "الثالوث"
المكوَّن من أمريكا وأوربا واليابان) في أكثر من 98% من حجم المعاملات المهول في
السوق (المقدر بتريليونات الدولارات، أي أكبر بمئات المرات من حجم التحويلات
الضرورية التي تحتاجها التجارة الدولية وتدفقات رأس المال المستثمَر في الإنتاج
الحقيقي (راجع: François Morin, Un monde sans Wall Street ; Le seuil,
2011) . هذه إذن ليست سوق مفتوحة تسمح بالمنافسة الشفافة الحرة والعادلة.
في الوقت نفسه،
يتجاهل الاقتصاديون التقليديون العلاقات الوثيقة التي تربط بين أهداف المعاملات
المالية والغايات الجيوستراتيجية التي تقتفيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الخاضعون
لها (أوربا واليابان). وهي العلاقات التي تعكس الاستراتيجية السياسية العالمية
لتلك "الإمبريالية الجماعية للثالوث"، والتي تستهدف الحفاظ على سيطرتها
الحصرية على مجمل الكوكب، وباستخدام كل الوسائل الممكنة- "الاقتصادية"،
وبالأخص المالية والسياسية، بما فيها العسكرية بالطبع (راجع: Samir Amin, The
implosion of contemporary capitalism, op cit).
ويكشف التاريخ
وتحليل الواقع المعاصر حقيقة هذا السلوك. وسوف أعود فيما بعد لمناقشة هذه المسألة
الرئيسية والتحدي الماثل أمام كل البلدان، ومنها الصين طبعًا.
(2) الجدل بشأن
"مزايا" و "مساوئ" العولمة المالية:
تنهمر كتابات الأكاديميين والخبراء بتواتر وأعداد مهولة بشأن الأمْوَلة
العالمية، الأمر الذي يصعب ويقلل قيمة مراجعتها. وفوق ذلك تنطلق معظم هذه الكتابات
من أحكام مسبقة متشابهة. ويتساءل الاقتصادي الفرنسي المرموق بنجامين كورياط عن هذا
قائلاً: "لماذا يكرر معظم الاقتصاديين- إن لم يكن كلهم- الشيء نفسه؟".
ومن حسن الحظ أن تزودنا موسوعة ويكيبديا الرقمية ببليوجرافيا مختارة (في الفصل
الخاص بـ "الأمولة العالمية") شملت سبعة وثلاثين مؤلِّفًا رئيسيًا،
بعضهم ينتقد النظام (مثل والدين بيللو، تشومسكي، بيتر جوان، ديفيد هارفي، وشخصي)،
والبعض الآخر من مؤيدي النظام الذين يقترحون إصلاحات طفيفة عليه (مثل ستيجلتز).
لذا سأشير هنا ضمنيًا إلى هذا الاختيار.
يركز الاقتصاديون التقليديون بطبيعة الحال على ما يرون أنها المزايا الرئيسية
الثلاث للعولمة المالية:
أولاً : أن منظومة "أسعار الصرف المتغيرة
في السوق" قد اضطلعت بـ "تثبيت" النمو الاقتصادي. فهل هذا صحيح؟
لقد تأسست أسعار الصرف المرنة كنظام حلّ محل نظام بريتون وودز لأسعار الصرف المثبَّتة
نسبيًا، وذلك بقرار من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1973، وقبل به شركاؤها في
الثالوث (أوربا واليابان) وتم فرضه على كل بلدان الجنوب تقريبًا. فماذا كانت نتيجة
خمسة وأربعين عامًا من هذه الممارسة؟
النتيجة الأولى : لم يحقق النظام الجديد الاستقرار، حتى ولو نسبيًا، في
أسعار صرف العملات الرئيسية (الدولار، الين، الاسترليني، المارك، اليورو). بل على
العكس شهدنا تقلبات واسعة (تحرّك سعر الدولار مثلاً في غضون بضعة أشهر من واحد
ونصف يورو إلى ثلثي اليورو). ولا تعكس هذه التقلبات حدوث تغيرات في القدرة
التنافسية للبلدان المعنية (فهناك مستويات بطيئة لتغير التنافسية المحكومة بنمو
غير متساوٍ في الإنتاجية). وقد جاء هذا نتيجةً لسوق مفتوحة للاستثمارات المالية
المضارِبة، وكان هذا حتميًا بحكم النمو المتواصل لفائض الأرباح الذي لا يمكن إعادة
استثماره في توسيع المنظومة الإنتاجية.
النتيجة الثانية : فيما يتعلق بأسعار الصرف بين العملات الرئيسية (الدولار،
الاسترليني، الين، اليورو) وبين عملات جميع بلدان الجنوب تقريبًا، أدى النظام
الجديد إلى خفض متواصل لقيمة عملات بلدان الجنوب. وهي النتائج التي تم التخطيط لها
كوسيلة لتمويل "شراء" رأس المال الاحتكاري للأصول المادية في الجنوب
(المصانع، المناجم، الغابات، الأراضي الزراعية، البنوك، شركات التأمين..الخ)
بأثمان بالغة الرخص. ومن ثم فإنها لم تدفع النمو قدمًا، وإنما ضاعفت النهب.
ولنقارن هذه النتائج بما حدث في الصين (التي احتفظت بالسيطرة على حسابها
الرأسمالي) والهند (التي انتقلت من نظام للسيطرة المحدودة على حسابها الرأسمالي
إلى الانفتاح الكامل). ففي الصين مثّل ناتجها المحلي الإجمالي عام 2015 مقيسًا بالقوة الشرائية المكافئة 18% من الناتج
المحلي الإجمالي العالمي، بينما مثل 16% من حيث قيمة الدولار الجارية (أي بفارق
صغير). بينما حقق الناتج المحلي الإجمالي في الهند 8% مقيسًا بالقوة الشرائية
ولكنه حقق أقل من 2% في حال القياس بالدولار، وهو فارق هائل يعكس الاستراتيجية
الناجحة للقوى الإمبريالية في سحق القدرة التنافسية لملايين المنتجين الهنود،
واختزالهم في مجرد مقاولي باطن يتم ضخ فائضهم لصالح رأس المال الاحتكاري الغربي.
ثانيًا : يُقال أن أسعار الصرف
المرنة تقلل تكاليف المعاملات، وهو ما يؤدي إلى نمو الصادرات. وهي مغالطة واضحة،
لأن حجم الصادرات يتحدد بفعل عوامل أخرى أكثر أهمية (طبيعة وحجم المنتجات). وفوق
هذا، لماذا ينبغي على الصين أن تتبع باستمرار نهج توسيع الصادرات بمعدل أعلى من
معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي؟ فهو اختيار مشكوك في صحته: إذ ينبغي على الصين
بدلاً من ذلك أن تنتقل لإعطاء أولوية أكبر لسوقها المحلية، الأمر الذي سيقلل من
تعرضها للمخاطر، ويحقق رفاهة اجتماعية أفضل، ويصحح الفجوات بين الأقاليم.
ثالثًا : يُقال أن الأسعار
المرنة توسّع هامش الخيارات للسياسات الاقتصادية الداخلية. بينما هي على العكس
تضيّق هذا الهامش، حيث سينبغي على السياسات الوطنية الانصياع للخيارات الوحيدة
المسموح بها من جانب القوى العظمى. وتزودنا الحالة الأوربية بمثال جيد على ضيق
هامش المناورة بالنسبة لأعضاء الاتحاد الأوربي.
(3) العولمة المالية والجيوستراتيجية العالمية:
كأداة للحفاظ على الهيمنة
الأمريكية
تعتبر العولمة المالية أداة في أيدي القوى المسيطرة، والولايات المتحدة
اليوم على وجه الخصوص، كما أنها كفيلة بإخضاع الحلفاء في أوربا واليابان. وفي الحقيقة أن واشنطن ماضية بلا هوادة منذ
عام عام 1945 في مشروعها للسيطرة على
العالم اقتصاديًا وسياسيًا. وطوال الفترة من 1945 حتى 1971/73 ظل هذا المشروع يعمل
في الإطار الذي وُضِع في بريتون وودز عام 1945. بيد أنه كان على الولايات المتحدة
حتى أواسط الثمانينيات أن تكبح جماح وحشية تدخلاتها، ومراعاة الثنائية القطبية
العسكرية مع الاتحاد السوفيتي، وشبه التعددية القطبية السياسية التي تسمح بهامش
مناورة للفاعلين الآخرين: الاتحاد السوفيتي والصين (منذ 1950)، بلدان عدم الانحياز
في آسيا وأفريقيا (منذ 1960). وقد نال المشروع الأمريكي دفعة إيجابية مع
الاختناقات التي أصابت البدائل السوفيتية وعدم الانحياز في أواسط الثمانينيات. كما
أن القرار الأحادي الذي اتخذته واشنطن بإحلال أسعار الصرف المرنة محل بريتون وودز،
قد استهدف تعزيز السيطرة، حتى لو جاء هذا على حساب تعميق الأزمة الطويلة الجديدة
للنظام (انظر: Samir Amin, The implosion of contemporary
capitalism ، مصدر سابق). بيد أن المصاعب المتزايدة
التي يواجهها ذلك المشروع لم تشجع واشنطن على بحث تقديم تنازلات، إنما على العكس
قادت إلى الهروب إلى الأمام باللجوء إلى مزيد من التدخلات الأعنف، بما فيها
الاعتداءات العسكرية. بل وتصر واشنطن أكثر من أي وقت مضى على مطالبة جميع
البلدان (بما فيها الصين) بالانصياع دون
مناقشة لذلك النوع من العولمة المالية الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة. ومن بين
أساليب الضغط على بيجنغ ذلك الخطاب الهجومي الذي يتهم الصين بممارسة
"الخداع" في اللعبة العالمية.
هل
تُعتبر الصين مسئولة عن مساوئ النظام العالمي ؟
إن الخطاب الدارج عن "حرب العُملات"، وبخاصة بين الدولار
واليوان، هو خطاب بالغ السطحية، ومضلل أيضًا. ويعرف الجميع ما تردده السلطات الأمريكية
وصندوق النقد الدولي وآخرون من أن اليوان الصيني مُقوَّم بأقل من قيمته الحقيقية،
وأن هذا لا يتسق والتوازن العالمي. ويبدو من هذا الخطاب كما لو كانت الصين مسئولة
أساسًا وبشكل مطلق عن كل مساوئ النظام. وبالطبع ليست هذه هي المشكلة الحقيقية،
وإنما هي تتمثل في الاختلال القائم بين سطوة الولايات المتحدة- وبالتالي الدولار
الأمريكي- وبين قلة حيلة الآخرين الذين يُطلق عليهم مُسمَّى الشركاء (وهم في واقع
الأمر غير شركاء) في السوق والنظام النقدي والمالي العالمي المندمج القائم.
وتعترف المؤسسة الأمريكية الحاكمة نفسها بعدم التكافؤ هذا في ممارسة
السلطة، حيث تقول بغطرسة: "الدولار عُملتنا ومشكلتكم". فالولايات
المتحدة تملك بين يديها أدوات إدارة عُملتها بما يتفق واحتياجاتها وغاياتها، بغض
النظر عن كونها جيدة أم سيئة. وهذا بالضبط ما يقوم به بنك الاحتياط الفيدرالي
الأمريكي وما تقضي به وزارة الخزانة. فيملك بنك الاحتياط الفيدرالي أدوات إدارة
السياسة النقدية حسب المصلحة الأمريكية دون الاعتداد بأي أحد آخر. وهو الذي يثبّت
سعر الفائدة، وليس المنظومة المصرفية. ويحتفظ البنك بهذا الحق سواء كان ذلك
التثبيت مرتفعًا أم منخفضًا، فعالاً أم لا في خدمة الأهداف. كما يحتفظ البنك بحق
شراء سندات الخزانة لتغطية عجز الموازنة الأمريكية بالتضخم فعليًا (أي طبع
النقود). وهذه في الواقع من الحقوق العادية للدولة ذات السيادة. لكن ما تقرره
الولايات المتحدة بحرية يؤثر بالتأكيد على كل الشركاء الآخرين، بل من الممكن أن
يحطمهم. لكن الإدارة الأمريكية لا تكترث بمثل هذه الأمور. فهي تكرر دائما القول:
"هذه نقودنا، فإذا كانت لكم مشكلة معها فهي مشكلتكم، وعليكم أن تحلوا مشاكلكم
بأنفسكم".
ولما كان هذا هو المبدأ الذي ترتضيه الولايات المتحدة، فإنه يجب أن يكون
القاعدة بالنسبة لكل البلدان الأخرى. كما أن هناك مبدأ أساسيًا وجوهريًا في
القانون الدولي بالسيادة المتساوية للدول. بمعنى أنه إذا كانت الولايات المتحدة
تحتفظ بهذه الحقوق، فإنها يجب أن تكون مكفولة لكل البلدان الأخرى. وهذا هو ما
تفعله الصين. فهي تتصرف بالضبط كما تفعل الولايات المتحدة، حيث تحتفظ لنفسها
بأدوات إدارة سياستها النقدية بما يتفق مع غاياتها واحتياجاتها. إذ إن البنك
المركزي الصيني- الذي تتحكم فيه الدولة- هو الذي يقرر سعر الفائدة في الصين، كما
يسمح له القانون بأن يتخذ أيضًا قرار شراء سندات الخزانة الصينية ليغطي بالتضخم
العجز الفعلي في موازنة الدولة الصينية.
ولا يوجد مثل هذا العجز حاليًا، لكن المهم أنه يحتفظ بهذا الحق. ولا تقوم
الصين هنا بأي شيء مختلف عما تفعله الولايات المتحدة، حيث تحتفظ مثلها تمامًا
بكامل حقوقها السيادية. ومن حق الصينيين تمامًا أن يقولوا للأمريكان: "مثلما
كان الدولار عملتكم ومشكلتنا فإن اليوان هو أيضًا عملتنا ومشكلتكم! وعليكم حل
مشكلتكم دون إلقاء اللوم علينا".
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن مشاكل الولايات المتحدة لم تأتِ نتيجة لما تفعله
الصين، وإنما هي نتاج إخفاقات الولايات المتحدة في كثير من المجالات المتصلة
بحوكمة الشركات والتعليم والبحوث والتطوير والإدارة المالية..الخ. ومن ثم لا يوجد
سبب واحد يجعل الصين تقبل وجهات نظر واشنطن.
إلا أن ما يثير القلق للأسف في الأوضاع الدولية الحالية أنه لا يوجد بلد
آخر غير الصين يحتفظ بهذه الحقوق. فليس هناك أي شريك رئيسي آخر (في مجموعة
العشرين) يحتفظ بتلك الحقوق كاملة، وإن كانت روسيا وبعض البلدان الصاعدة الأخرى
كالهند والبرازيل قد مضت شوطًا ما في هذا الاتجاه. ولكن أغلبها في نهاية المطاف قد
استسلمت أو قبلت على وجه العموم بالقواعد التي وضعتها الولايات المتحدة، حتى أن
"منطقة اليورو" قد أفرغت نفسها بنفسها من المضمون بتوقيع اتفاقيتي
ماستريخت ولشبونه. فقد ارتضت لنفسها القواعد الغريبة في إدارة ما يُسمى البنك
المركزي الأوربي الذي لا يُعتبر من الأساس بنكًا مركزيًا (لأنه لا توجد دولة
أوربية تتحمل مسئولية إدارته). فلا يحق له إقراض الدول الأعضاء، بينما يملك هذا
الحق الاحتياط الفيدرالي والخزانة الأمريكية، وكذلك البنك المركزي الصيني.
يكمن السبب الرئيسي وراء هذا الوضع غير المعقول في عدم وجود الدولة
الأوربية الموحدة، وعدم ثقة الاتحاد الأوربي في الدول الأوربية الأعضاء. ومن ثم
فإن قرار عدم إقراض الدول الأعضاء ينبعث من الاعتقاد بالدور الحصري للبنك المركزي
الأوربي في منع أي جرعة من التضخم بأي ثمن! وقد أصبحت قاعدة "عدم
التضخم" بمثابة المبدأ المطلق. وهو ما اعتبره "برودي"- الرئيس
السابق للاتحاد الأوربي- نوعًا من الغباء. وهو كذلك في الحقيقة.
كذلك، ليس البنك المركزي الأوربي هو من يقرر سعر الفائدة، لأن هذا متروك
لما تُسمى "السوق"، أي أن الأمر متروك عمليًا للبنوك الكبرى الأوربية
إلى جانب البنوك الأمريكية، وحتى اليابانية، الناشطة في القارة الأوربية. وهكذا
أخصى البنك المركزي الأوربي نفسه بنفسه. ولهذا ليس الأوربيين في وضع يسمح لهم بتلقين
الصينيين ما يجب أن يفعلوه. فليس الصينيين هم من وضعوا أحكام عمل البنك المركزي
الأوربي! وإذا كانت القواعد سخيفة أو غبية فاللوم يقع على الأوربيين.
وبالنسبة للشركاء الآخرين، مثل بريطانيا واليابان، فقد قبلوا، واستمروا في
قبول الاصطفاف وراء الولايات المتحدة، وأن يتركوا لها إدارة النظام النقدي والمالي
العالمي المندمج. وبعبارة أخرى، فقد قبلوا بهذا الاختلال الكبير لصالح الولايات
المتحدة. وتلك هي الأخرى مشكلتهم هم: فإذا كانوا قد قرروا اتباع الإملاءات
الأمريكية فلماذا يلومون الصين لعدم نهجها نفس نهجهم! ومن حق الأوربيين
واليابانيين أن يديروا عملاتهم كما يريدون، بالضبط مثلما تفعل الولايات المتحدة
والصين. لكنهم اتخذوا قرارًا سياسيًا بالاصطفاف وراء الولايات المتحدة. ومن ثم فإن
عواقب هذا الاختيار لا يمكن بكل تأكيد إلقاء مسئوليتها على الصين.
من المهم جدًا فهم أن هذه هي المشكلة المحورية. إنها مشكلة النظام النقدي
والمالي العالمي المندمج، المحكوم بالدولار وتتحكم فيه بشكل مطلق الخزانة
والاحتياطي الفيدرالي الأمريكيان. وهو وضع غير مقبول. هذه هي المشكلة، وليست مشكلة
سعر صرف اليوان أو أية عملة أخرى.
(4) هل يمكن إصلاح نظام الأمولة المعولمة الحالي
لصالح جميع الشركاء الدوليين ؟
هناك ثلاث مجموعات من الإجابات الممكنة على المشكلة الحقيقية التي تواجه
النظام النقدي والمالي العالمي المندمج.
أولاً : فيما يتعلق بأولئك الزاعمين بأن
النظام غير سيئ، ويقبلون باستمرار الدولار الأمريكي في لعب دور العملة الدولية
الرئيسية، إن لم تكن الحصرية، تتلخص فكرتهم في استعادة النظام إلى ما كان عليه قبل
الانهيار المالي عام 2008، وربما مع إدخال بعض الإصلاحات الرقابية الطفيفة (وأغلبها
ذو طابع تجميلي ونظري أكثر من كونه واقعيًا).
هذا بالضبط هو ما اقترحته لجنة ستجلتز (2009) وما يستهدفه تقريرها. فهو يقول
بضرورة بقاء الدولار كعملة دولية حصرية تقريبًا (مع بعض التنازلات الصغيرة). كما
يقر بحق الحكومة الأمريكية في الانفراد المطلق بإدارة هذه العملة ولصالحها. ومن ثم
يكون على جميع الأطراف الأخرى أن يتكيفوا مع نتائج السياسات الأمريكية. وهو بطبيعة
الحال أمر غير مقبول، وبخاصة من زاوية مصالح الجنوب. وإذا كان الأوربيون
والبريطانيون واليابانيون يقبلونه فهذا شأنهم. ولكن لماذا يطالبون الآسيويين
والأمريكان اللاتينيين والأفارقة بقبوله؟ وفي حقيقة الأمر أن الحلول على النموذج
الذي يطرحه ستجلتز قد أخفقت بالكامل. فلم يُعِر أحد تقريره اهتمامًا. إذ لم يقنع
الشركاء خاصة في الجنوب، بل إن الشمال نفسه لم يُعطِ أي اعتبار لتوصيات ستجلتز.
أما المجموعة الثانية من الحلول فهي مثالية من الناحية النظرية. حيث تتضمن
إنشاء نظام نقدي ومالي عالمي جديد لا يحكمه الدولار الأمريكي ولا يخضع لسيطرة
واشنطن كما هو الحال الآن. ويعني النظام الجديد المتخيَّل خلق عملة دولية جديدة
تتحدد قيمتها بالطبع حسب سلة من العملات الرئيسية (الدولار، اليورو، الاسترليني،
الين، اليوان، وربما بعض العملات الأخرى). ويُفترض أن تتطابق حصة كل مكوِّن مما
سبق مع مساهمة كل دولة أو مجموعة دول في التجارة العالمية. وهي فكرة أقرب إلى
"حقوق السحب الخاصة" SDR
بل وحتى "البنكور" الذي تصوره كينز عام 1945. وحتى يمكن للعملة المقترحة
أن تكون عملة دولية واقعية فإنها تحتاج بالطبع إلى إدارة سليمة، أي يجب ابتكار
قواعد جديدة لإدارتها, وقد سبق لدومنيك شتراوس خان أن تحرك في هذا الاتجاه، لكن تم
إلغاؤها فيما بعد على يد من خلفه في صندوق النقد الدولي.
ومن بين القواعد الجديدة المتصوَّرة ضرورة ارتباط العملة الدولية المقترحة
بعلاقة مع الذهب. أي أنه لا يمكن تثبيت النظام إن لم يكن هناك مثبِّت. ويجب تحديد
قيمة العملة الدولية الجديدة بما يكفئ كمية محددة بدقة من الذهب. فمعيار التبادل
مع الذهب مطلوب، ولكن ليس كمعيار الذهب الذي اعتُمِد في حقبة بريتون وودز التي
استمرت من 1945 إلى 1971 حينما تم بقرار أمريكي أحادي إلغاء قابلية تحويل الدولار
إلى الذهب. فعلى مدى قرابة الثلاثين عامًا كان من الصحيح عمليًا القول بأن الدولار
جيد كالذهب، لكن هذه لم تعد الحال منذ السبعينيات. وقد يكون هذا الاقتراح
"مثاليًا"، ولكن المثالي مستحيل التحقق لأنه ببساطة مرفوض من الولايات
المتحدة وحلفائها الخاضعين في أوربا واليابان. بعبارة أخرى، مرفوض من
"الثالوث". ولما كان أولئك الفاعلون الرئيسيون لا يريدونه فإنه لن يمكن
تحقيق توافق عالمي حوله، ومن ثم لا يمكن أن يكون هناك حل عالمي مثالي. وبالتالي
فإن الجري وراء حل مثالي لن يعدو أن يكون كتابة عدد لانهائي آخر من الأوراق دون أن
تترك أي أثر. فهو مرفوض سياسيًا منذ البداية من قِبَل الولايات المتحدة وأوربا
واليابان.
إذن لم يعد هناك سوى البديل الثالث. فعلى بلدان الجنوب، الصاعدة وغيرها، أن
تبحث وضع ترتيبات خاصة فيما بينها. وسيكون من المفيد لو استطعنا إنجاز هذه الترتيبات
عبر الجنوب العالمي، لكن هذا مازال صعبًا في الوقت الحالي. ومع ذلك يمكن بناء
ترتيبات إقليمية مستقلة عن القواعد الحاكمة للنظام العالمي. فلنترك النظام العالمي
على ما هو عليه، لنتركه للشكاوى المتبادلة بين الأمريكان والأوربيين، فلا شأن لنا
بمشاكلهم. ولقد طُرِحت بالفعل مبادرات في اتجاه فكرة الترتيبات الإقليمية هذه، لكن
الإنجازات الفعلية مازالت محدودة للغاية.
وكان هذا هو ما فكر فيه الصينيون بالضبط حينما أنشأوا منظمة التعاون
المعروفة باسم مجموعة شنغهاي (2001) وكذلك المبادرات الصينية في مجال الترتيبات
المالية والنقدية مع بعض بلدان مجموعة "أسيان" في جنوب شرق آسيا، ثم
مشروع "طريق الحرير" فيما بعد. وينطبق هذ أيضًا على تصورات بعض بلدان
أمريكا اللاتينية حينما أنشأت مشروع "ألبا" (2004) وإصدار عملة
"سوكري". ومازال هناك الكثير الذي يجب عمله.
هذا هو الحل، والحل الوحيد القابل للحياة. ويمكن على مستوى الجنوب ككل
تطوير وتنسيق تلك الترتيبات المتعددة في أجزاء مختلفة منه. لا مفر من أن نتحرك
باستقلالية. يجب أن نقر بأنه مع استحالة الوصول إلى توافق عالمي يتحتم علينا في
الجنوب أن نعمل معًا وباستقلال قدر الإمكان عن النظام القائم.
وقد أثبتت الاجتماعات الأخيرة لمجموعة العشرين بوضوح أكبر أن التوافق
العالمي غير ممكن. وكان الإخفاق الفعلي هو نصيب محاولة مجموعة السبعة لاستيعاب
الروس أولاً في مجموعة الثمانية، ثم استيعاب بعض البلدان الصاعدة (الصين،
البرازيل، الهند وغيرها) في مجموعة العشرين. ونحن- المهذبين- ذهبت حكوماتنا إلى
اجتماعات مجموعة العشرين لكنها لم تتمخض عن أي توافق. لذا لم يتبق لنا سوى
المبادرات المستقلة.
(5) هل ينبغي على الصين أن تنخرط في الأمولة العالمية ؟
بدأت الإصلاحات في الصين عام 1978 بفتح منظومة إنتاجها الداخلي أمام آليات
السوق، وكذلك الانفتاح على التجارة العالمية. وتبع هذا تحرير الاستثمارات الخاصة
في إطار عالم معولَم، ووُجهت الدعوة للاستثمارات الأجنبية كي تنشط في الصين، ثم
فيما بعد أخذت الاستثمارات الصينية تعمل خارج البلاد. لكن الصين لم تندمج حتى الآن
في النظام النقدي والمالي العالمي: فالبنوك
العاملة في الصين مملوكة حصريًا للدولة، والبنك المركزي الصيني هو الذي يحدد سعر
اليوان، أي الحكومة فعليًا. وكان هذا النظام ناجحًا بمعنى أنه دفع نمو الناتج
المحلي الإجمالي، ومن ثم فتح أفقًا ممكنًا أمام "اللحاق" بعدما أصبحت
الصين القوة الاقتصادية رقم واحد في العالم.
أما الخطوة القادمة التي يجري بحثها الآن من أجل مزيد من الإصلاح، والمعروفة
في لغة الاقتصاد بـ "فتح الحساب الرأسمالي"، فهي تعني: (أ) السماح
للبنوك الأجنبية بالعمل في الصين، والمنافسة مع البنوك الصينية العامة والخاصة؛
(ب) إلغاء السعر الثابت لصرف اليوان والسماح للسوق الدولية الحرة بالعمل وتوليد
سعر صرف متغير ومرن.
لكن الصين في الوقت نفسه تنتقد نظام العولمة الحالي، باعتبار أنه يخضع من
كافة الأوجه لـ "هيمنة" القوى الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة. وبمقتضى
هذه الرؤية أيضًا فإن الأوجه الاقتصادية للعولمة وثيقة الصلة بالقوى السياسية
والجيوستراتيجية القائمة في العالم الواقعي. وهي العلاقة التي تمثل في الحقيقة
اعترافًا بواقع غالبًا ما يتجاهله الاقتصاديون الحرفيون. بينما الصين تناضل من أجل
"نوع آخر من العولمة" لا مكان فيه للـ "هيمنة".
لذلك يجب التعامل بحذر مع الاقتراح بالانخراط في الأمولة العالمية، مع
ضرورة الإجابة على الأسئلة التالية: (أ) هل سيؤدي هذا التوجه إلى دفع النمو في
الصين أم سيمثل عائقًا أمام مواصلتها النمو بمعدلات مرتفعة؟ (ب) هل سيؤدي تبني
السعر المتغير لليوان إلى إتاحة فرصة أكبر كي تصبح الصين لاعبًا ماليًا عالميًا
كبيرًا يستطيع أن يتنافس بنجاح مع القوى المالية الكبرى الأخرى، وبخاصة الولايات
المتحدة والدولار الأمريكي؟ (ج) هل يُعتبر من الحكمة بأي حال تصور أن القوى
الغربية الرئيسية يمكن أن تتسامح مع تطور الصين إلى الاقتصاد العالمي الرئيسي، أو
القبول بالصين عضوًا في "نادي" كبار اللاعبين الماليين؟ أم أن
الجيوستراتيجية السياسية في الغرب، والولايات المتحدة خصوصًا، ستخطط لجعل مشروع
اللحاق الصيني ينتهي بالفشل، واستخدام كل الوسائل الاقتصادية والمالية وحتى
العسكرية لتحقيق هذا الهدف؟
سيطرة
السلطات الصينية على الحساب الرأسمالي كانت العامل الحاسم في ضمان نجاح الإصلاحات
الصينية.
لقد نجحت البنوك الوطنية الصينية في تمويل نشوء مئات الآلاف من المشروعات
التنافسية الصغيرة، الخاصة منها والعامة (ما تسمى مشروعات البلدات والقرى TVEs). وهو الخيار الذي لم تفكر في المبادرة بمثله قط البنوك الأجنبية
المنتشرة في بلدان الجنوب، وإنما قصرت دعمها على الشركات متعددة الجنسيات، ومن ثم
ساعدت فعليًا على خلق شبكات من مشروعات مقاولي الباطن صغيرة ومتوسطة الحجم، والتي
تنزح الفائض المنتَج لصالح الريوع الاحتكارية المالية. بينما استطاعت الإصلاحات
الصينية، بفضل السيطرة على الحساب الرأسمالي، ضمان بقاء هذا الفائض في الصين
وتمويل النمو المتواصل.
إن النمط الصيني للاندماج في العولمة قد سمح لها بوضع الشروط للاستثمارات
الأجنبية، خاصة فيما يتعلق بمشاركة رأس المال الصيني العام أو الخاص في حقوق الملكية،
ونقل التكنولوجيا، وترحيل الأرباح...الخ. ولا يجوز التخلي عن هذه الشروط مع المزيد
من اندماج الصين في منظومة السوق المالية العالمية. ذلك لأن تحرك الصين نحو
الأسعار "السوقية" المرنة سوف ينتج بالضبط نفس النتائج التي عرفتها
بلدان الجنوب الأخرى: أي تدمير ملايين المنتجين الصينيين التنافسيين، ومن ثم نهاية
حلم اللحاق. وهو الهدف الذي يبتغيه رأس المال المالي الاحتكاري الغربي. أما الزعم
بأن السياسات الصينية "الذكية" في السوق العالمية المندمجة سوف تساعد في
تفادي مثل تلك النتائج فهو زعم زائف: فهل كان الهنود مجرد أغبياء؟ ولماذا قبل
القادة الهنود صفقة كهذه؟ الإجابة ببساطة تتمثل في وجود قلة من المتعاونين
التابعين لرأس المال المالي الأجنبي، والذين جمعوا ثروات طائلة من وراء هذا
التواطؤ. ولهذه الممارسة تسمية معروفة جيدًا في الماركسية الصينية: طبقة
الكمبرادور، تلك الطبقة التي ارتبطت مع رأس المال المالي البريطاني عندما أنشأت
بنك HSBC (الذي أنشئ أساسًا لتمويل حروب
الأفيون!).
إن سيطرة الصين على حسابها الرأسمالي هي التي حمتها من معاناة الأزمة
المالية 2007/8. بينما البلدان الآسيوية الأخرى التي اندمجت في السوق النقدية
والمالية العالمية قد لحق بها دمار جراء الأزمة. فقد تمكن رأس المال المالي
الأجنبي من نقل أعباء تلك الأزمة إلى تلك البلدان، فانهارت قيمة عملاتها الوطنية،
حتى تمكنت البنوك الأجنبية في إندونيسيا من "شراء" الغابات (التي تحولت
إلى إنتاج زيت النخيل) والمناجم.. إلخ، بأسعار بخسة جدًا. أما آثار الأزمات
المالية المشابهة التي نتجت عن انفجار الفقاعات العقارية فمن المتوقع أن تلوح في
المستقبل القريب المنظور. بينما إذا تحركت الصين نحو الانفتاح الجديد المقترَح
فإنها سوف تعاني من تدمير هائل ونهب لثرواتها.
وفيما يتعلق بنمو تصدير الصين لرؤوس الأموال كبديل عن الاستثمار الحصري
للفائض الصيني في سندات الخزينة الأمريكية، فإنه لا يمكن تحاشي هشاشة شراء الأصول
المادية خارج الصين (شركات، مناجم، أراضٍ زراعية) طلما أن الصين لا تستطيع حماية
ممتلكاتها من مخاطر التدخلات العسكرية الأمريكية. ولن يُقلل من هذه المخاطر
الالتحاق بالنظام المالي العالمي.
هل
يمكن قبول عضوية الصين في الإمبريالية الجماعية الجديدة الموسعة لتصبح
"رباعية" بدلاً من "الثلاثية"؟
إنني على اقتناع تام بأن الثالوث الذي تقبع الولايات المتحدة على قمته لا
ينوي اجتذاب أعضاء جدد، وإنم يكرس كل جهوده للإبقاء على سيطرته المطلقة على
الكوكب. وسيكون من السذاجة المفرطة تصور أن يقبل الثالوث بالمشروع الصيني للحاق.
ولعل تجربة روسيا تعطينا مثالاً على كيفية رفض كافة أطراف الثالوث الاعتراف
بحقها في الانضمام للنادي الضيق. فقد سلم يلتسين كل الأصول التي كانت في يده،
واستعاد الرأسمالية كاملة. ومع ذلك لم يتم الاعتراف بحق روسيا في الانضمام إلى
"أوربا" أو الناتو، بل استهدف الغرب خفض مكانة روسيا إلى مجرد مُورِّد
للمواد الخام وإخضاع ما قد يكون قد تبقى من صناعات لوضعية مقاول الباطن. كذلك إذا
ارتضت الصين أحكام الأمولة العالمية ستتحطم كل جهودها لتحقيق "اللحاق".
كما أن التهديدات العسكرية الموجهة للصين واضحة تمامًا للعيان. وقد اختيرت
كوريا الشمالية وإيران كهدفين للتدخل العسكري الفعلي من جانب الولايات المتحدة
وأوربا وإسرائيل واليابان، وكذلك يَلقى الدلاي لاما والأصوليون الإسلاميون الييغور
الدعم كنقط انطلاق لتفكيك الصين.
وماذا عن العقوبات الاقتصادية في الوقت الحالي؟ لقد منحت الولايات المتحدة
لنفسها امتيازًا استثنائيًا: بسحب الشرعية من القانون الدولي وإعطاء الأولوية
للقانون الأمريكي على حسابه. ومن ثم فإنها حينما تقرر عقوبات على بلد ما (إيران
كمثال) فإنه قرار يُلزم بقية العالم بتطبيق ذات العقوبات، وإلا امتد العقاب حتى
للمتعاونين معها (بما فيهم أوربا). فهل تقبل أوربا ذلك؟ إجابتي: نعم، بالرغم من
الخسائر التي ستتكبدها شركاتها وبنوكها.
وبالنسبة للصين، فطالما ظلت مبتعدة عن العولمة المالية ستظل أي عقوبات ضدها
محدودة الفعالية. ولنأخذ كمثال: عندما انسحبت شركة أمريكية تعمل في حقل المعلومات،
أحلت الصين محلها شركة بريطانية منافسة على الفور. وإذا فرضت الولايات المتحدة
عقوبات على بعض الصادرات الصينية يمكن للصين أن ترد بعقوبات مضادة. ولكن هذه الميزة
الهائلة سيتم فقدها حال السماح للبنوك الأجنبية بالعمل في الصين.
خاتمة
لا حاجة للتعجل والانضمام للنظام المالي المعولم الذي يُعتبَر الضمانة
الوحيدة لاستمرار احتفاظ واشنطن بالمزيا التي يتمتع بها الدولار حصرًا. وفوق ذلك يمر
مجمل النمط الحالي للعولمة بأزمة عميقة بالفعل، الأمر الذي يخلق الفرص أمام
الخارجين عنه. فالبقاء بعيدًا يفتح الآفاق أمم البناء الممكن لنظم إقليمية مستقلة
بديلة ترمي إلى خلق شروط أفضل لتبلور عولمة بديلة لا تعرف الهيمنة. كما أن
الرأسمالية العالمية لا يمكنها التعايش على المدى الطويل مع وجود كيانات غير رأسمالية،
وحتى الكيانات المستقلة نسبيًا.
إن البقاء خارج العولمة المالية يُعتبر سلاحًا مهمًا في يد الصين، ولا يجوز
أن تسلمه لقوى ليست راضية بالضرورة عن مشروعها للاشتراكية ذات الخصائص الصينية.
ملخص
تركز هذه الورقة على الوجه المالي
للعولمة. ويرى الكاتب أنها موضع تحكم حفنة من الاحتكارات المالية في الغرب، ومن ثم
هي أداة في أيدي القوى السائدة- خاصة الولايات المتحدة- لدعم غاياتها
الجيوستراتيجية. ويشترك النظام الحالي لأسعار الصرف المرنة في المسئولية عن الأزمة
النظامية المستمرة، بينما لا مسئولية على الصين في ذلك. ويرجع نجاح برنامج الإصلاح
بروح الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، إلى سيطرتها الوطنية على نظامها المالي الخاص
ورفض العولمة المالية. ومن ثم فإن قبول التسليم لفعلي لمطالب الأمولة العالمية
سيضع نهاية للحلم الصيني المشروع. ولمّا كان من غير الممكن إصلاح النظام العالمي
الحالي على المستوى الدولي، فإن البديل يكمن في التحرك نحو بناء ترتيبات إقليمية
بديلة.