lundi 20 janvier 2014

THE CHINESE YUAN (arabic)



اليوان الصينى
ملاحظات سمير أمين فى مشروع تحويلية اليوان



(فبراير 2013)

كتبت هذه الملاحظات بناءُ على دعوة من أصدقاء صينيين أرسلوا لى مقالين فى الموضوع، أحدهما صادر من البنك البريطانى HBSC والآخر من خبير صينى تحت اسم مستعار يبدو أنه قريب من السلطات المصرفية القائدة فى الصين.
ويمكن اعتبار هذه الملاحظات تكملة لمقالى المعنون "الصين عام 2013" والمنشور باللغة الإنجليزية فى مجلة منثلى رفيو عدد يناير 2013 (ترجمة عربية للمقال متوافر فى كتابى "ثورة مصر بعد 30 يونيو") وقد تم نشر هذه الملاحظات فى ترجمة صينية.

أولا :  تتلخص المقترحات التى قدمها بنك HSBC بخصوص تحويلية اليوان Convertibility فى جملة هى الآتية: يُنصح للصين أن تتجه نحو قبول تحويلية شاملة لعملتها– اليوان- بمعنى ترك تحديد سعر هذه العملة لتقدير السوق المالية العالمية للعملاتّ. ويذكر البنك ما يعتبره مزايا هذا الخيار:
1) أنه يخفف وزن المخاطر التى تصاحب الوضع الراهن القائم على سياسات الدولة الساعية إلى تثبيت سعر اليوان؛ 2) أنه يخفف تكلفة التبادلات؛ 3) أنه يوفر للصين مزيداً من حرية التحرك فى سياستها الاقتصادية الوطنية والخارجية.
ولكن تاريخ السنوات الخمسين الأخيرة يثبت أن نظام العملة العائمة لم يخفف من شدة تقلبات سعر الصرف، بل على عكس ذلك، يجعل هذا السعر طائراً أى خاضعاً لتقلبات غير متوقعة تحكمها ظروف اللحظة وممارسات المضاربة الطارئة.
ولكن بنك HBSC يتجاهل واقع التجربة فيكرر أطروحات المذهب الليبرالى المنفلت، ومفادها أن "السوق الحرة" تضمن الاستقرار والثبات!
فلنطرح انطلاقاً من هذه المقدمة، سؤالين ينبغى الإجابة عليهما وهما:
أ. هل يقوم المذهب الليبرالى على أسس علمية صلبة تكرس التجربة صحتها؟
ب. ما هى الأسباب التى أدت ببنك HBSC إلى طرح هذه "النصيحة"؟ ما هى المصالح التى قد يخدمها تبنى نظام العملة العائمة الحرة والتحويلية الشاملة بالنسبة إلى اليوان؟
ثانيًا : لا يقوم المذهب الليبرالى على أسس علمية. فلم تُستخلص المبادىء التى يُعرف من خلالها هذا المذهب من الفحص المنتبه فى واقع الرأسمالية، بل استخلصت من بنية خيالية لا تمت للواقع بصلة. أقيمت هذه البنية على تصور مجتمع خيالى ينحصر فى تعميم التبادل فى أسواق تضم جميع أوجه الحياة الاقتصادية: تبادل المنتجات (السلع والخدمات)، تبادلالعمل، تبادل السيولة (توافر النقد)، تبادل وسائل الحصول على الأرض الزراعية، تبادل وسائل الوصول إلى الموارد الطبيعية. يضاف إلى ذلك أن هذا المذهب يعتبر أن الفاعلين فى هذه الأسواق الحرة والمعممة هم "أفراد" يتمتعون بالحرية فى تحركاتهم وبعقلانية سلوكهم. فيحل المذهب "هذا الفرد" Homo Economicus ("الإنسان الاقتصادى") محل الفاعلين الحقيقيين فى الأسواق، وهم: المنشآت الإنتاجية (قد تكون هى نفسها احتكارات)، والطبقة العاملة المكونة من أفراد ليس لديهم ما يقدمونه للبيع عدا قدرتهم على العمل، والفلاحين بصفتهم أعضاء فى مجتمع ريفى له تاريخ، والبنوك (التى تحتكر عرض السيولة) الخ..
فلا يقوم المذهب الليبرالى على نظرية بالمعنى المفهوم للكلمة، تحترم الواقع حتى تفهم آلياته فى التحرك، فلا يتجاوز هذا المذهب حدود التصريح بدوجما معروفة سابقاً.
قال دنج هسيو بنج: "لابد من الانطلاق من ملاحظة الواقع". يفعل المذهب الليبرالى عكس ذلك تماماً: ينطلق من تصور خيالى لا يمت للواقع بصلة. فهو دوجما وليس نظرية (انظر الملاحظة الختامية).
والسؤال الحقيقى الذى ينبغى أن يُطرح هو: ما هى المصالح التى يخدمها المذهب الليبرالى، علماً بأن هذا المذهب يبذل أقصى جهده لإخفائها؟
والإجابة على هذا السؤال هى الآتية: المذهب يخدم مصالح الاحتكارات "المؤَموَلة" للمراكز الإمبريالية (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان) ولا يخدم سواها، هدفه الوحيد هو تعظيم أرباح هذه الاحتكارات.
أرجو من القارىء الصينى أن يرجع هنا إلى كتابى المعنون "انفجار الرأسمالية المعاصرة" - المنشور باللغة الصينية- ووصفى لما أسميته "رأسمالية الاحتكارات المعولمة، المؤمولة والمعممة" بصفتها ذلك النظام المعاصر المتأزم.
ثالثًا : تبنت الدول الرأسمالية القائدة نظام الصرف العائم (للدولار، والاسترلينى، المارك ثم اليورو، الفرنك السويسرى، الين اليابانى) منذ الأعوام 1973/1975. ثم تبنت دول الجنوب النظام نفسه، أو على الأقل فُرض عليها.
ما هى النتائج التى ترتبت على هذا التحول فى نظام الصرف الفاعل منذ خمسين عامًا والتخلى عن النظام السابق القائم على أسعار صرف ثابتة.
أولاً، لم يترتب على هذا التحول تثبيت– ولو نسبى- لأسعار صرف العملات العظمى. بل على عكس ذلك أنتج النظام مزيداً من التقلبات الطارئة والفجائية فى الصرف. حتى أصبحت أسعار العملات طائرة لأقصى الحدود. على سبيل المثال:  ارتفع سعر الدولار باليورو إلى ضعف ما كان عليه- وذلك فى ظرف أسابيع- ثم انخفض مرة ثانية! ولا ترجع هذه التقلبات إلى تطور فى درجة التنافسية المقارنة للاقتصادات المعنية، إذ إن هذا التغير بطىء بطبيعته، بل ترجع إلى أن نظام الصرف العائم قد فتح باب المضاربة القصيرة الأجل فى أسعار العملات. فالسؤال التالى منطقياً هو: من استفاد من هذه  المضاربة؟ إنهم الذين يدافعون عن هذا النظام طبعاً.
ثانيًا، وبالنسبة إلى أسعار صرف عملات دول الجنوب (أى أسعارها بالدولار أو باليورو أو بالفرنك السويسرى أو بالين اليابانى)، لم يؤد النظام إلى مزيد من الطابع الطائر لهذه العملات فقط، بل شجع تخفيضاً متواصلاً لا نهاية له لأسعار العملات المعنية. وقد أتاح هذا التخفيض المتواصل شراء أصول حقيقية تملكها اقتصادات الجنوب (مناجم، مصانع، سلاسل تجارية، أراض) لصالح الاحتكارات الغربية وبأسعار منخفضة لأقصى الحدود. وتسعى الاحتكارات الإمبريالية إلى إنجاز هذا الهدف بالتحديد.
 ولنضرب مثلاً بالبرازيل، هل شجع تبنى نظام الصرف العائم رفع معدل النمو فى البرازيل؟ كلا فظل هذا المعدل متواضعاً (3% فقط). فهل ترغب الصين تخفيض معدل نموها بهذه الدرجة؟
رابعًا : نعود إلى لفت الانتباه إلى هؤلاء الفعّالين فى النظام العالمى الذين استفادوا من التحول. ولننسى هنا خطابهم الأيديولوجى القائل أن نظام الصرف العائم يصلح لجميع الدول والشعوب حتى يستفيد منه "كل الناس؛ فرداً فرداً" (!).
لقد صحب تبنى هذا النظام تضخيم أرباح الاحتكارات المؤمولة، وهى التى تزاول نشاطها فى الأسواق المالية العالمية. ولا سيما أرباح أعظم البنوك الأميركية والأوروبية واليابانية. فمن تحمل عبء هذا التضخيم فى الأرباح المذكورة؟
أنتج تضخيم أرباح الاحتكارات المأمولة تدهوراً فى معدلات نمو الناتج القومى الإجمالى، أى بمعنى آخر استتبت حالة ركود عنيد ودائم! لدرجة أن ارتفاع هذا المعدل من 0.1% إلى 0.2% أصبح يعتبر فى الخطاب السائد "انتصارا" وإشارة للخروج من الأزمة!
والبنك HBSC ينتمى إلى تكتل البنوك العظمى التى انفردت بالاستفادة من نظام الصرف العائم وفتح باب المضاربة المصاحبة له. فقد أنشىء هذا البنك فى هونج كونج فى أعقاب حرب الأفيون عام 1840 ولم يشارك هذا البنك مصالح "الصين"، بل ظل منذ إنشائه إلى يومنا هذا غريباً عن هذه المصالح، ويهتم فقط بتضخيم أرباحه.
خامسًا : لقد قاومت الصين (أقصد السلطات الحاكمة والبنك المركزى) إلى اليوم ضغوط القوى الإمبريالية التى تسعى إلى تنازل الصين عن تحكم سلطتها فى إدارة اليوان خارج الأسواق العالمية. علماً بأن هذه المقاومة الفعالة والناجحة قد لعبت دوراً إيجابياً فى إنجاز معدلات نمو مرتفعة بصفة مستقرة.
يقال إن هناك خطرًا قائمًا ناتجًا عن الطابع الفجائى للتغيرات فى سعر اليوان التى قد تقررها السلطات الصينية. وهذه بديهية! فليس هناك "سياسة" "معصومة من الخطأ"! فلا يمكن استبعاد خطأ قد ترتكبه السلطة فى قرارها بالنسبة إلى سعر اليوان. ولكن هذا الخطر يظل متواضعاً إذ يمكن دائمًا "تصحيح" الأخطاء! وهذا الخطر الخفيف لا يقارن بفداحة الأخطار التى تسببها ممارسات المضاربة فى حالة العمل طبقاً لمبدأ الصرف العائم.
سادسًا : تقول النظرية الليبرالية إن الصرف العائم ينتج الاستقرار، والعكس هو الأقرب إلى أن يكون صحيحًا. وإذا كانت النظرية غير صحيحة فإن التوابع التى تُستخلص منها تكون أيضاً غير صحيحة.
فحينما يزعم البنك HBSC أن الصرف العائم يخفف تكاليف المبادلات، أقول إن العكس هو أقرب إلى الصحة، إذ إن التقلبات الفجائية المترتبة على المضاربة تسبب تكاليف فى التعامل أعظم بكثير!
وعلى أية أساس يقال إن الصرف العائم يشجع تنمية التجارة الخارجية؟ هناك عوامل أخرى تتحكم فى حجم التجارة الخارجية- أهم من التغيرات الطارئة التى قد تحدث فى سعر الصرف- أولها معدل نمو إنتاج الصين من السلع المصنعة وهى بدورها سلع قابلة للتصدير.
أضيف إلى ذلك ملاحظة تقع هنا فى محلها: لماذا جب أن تعطى الصين الأولوية الأولى لتضخيم صادراتها بحيث يكون معدل نموها يفوق معدل نمو الناتج القومى؟
هذا القول غير منطقى. على عكس ذلك أقول إن الأفضل بالنسبة إلى الصين أن تخفف تدريجياً الأهمية التى أعطتها للصادرات لصالح مزيد من التركيز على إنماء السوق الداخلية، وبالتالى رفع مستوى الرفاهية لصالح الطبقات الشعبية.
لماذا يفضل بنك HBSC إضفاء الأولوية للتصدير؟
الإجابة تفرض نفسها هنا: لأنه لم يكن هناك بديل للمستعمرة الصغيرة السابقة (هونج كونج). ولكن الصين ليست هونج كونج. ينظر البنك HBSC على الصين كما لو كانت "هونج كونج" كبرى! مضطرة إلى أن تضحى برفاهية شعبها لصالح إنجاز مزيد من التصدير لفائدة المستهلك الأجنبى. يسبب هذا الخيار فائضاً متزايداً فى ميزان المدفوعات لا طائل من تحته.
هل يضفى تبنى نظام الصرف العائم مزيداً من حرية التحرك فى السياسة الاقتصادية الوطنية، كما يزعم البنك المذكور؟ هنا أيضاً أقول إن العكس هو الأقرب إلى الحقيقة.
فيسبب الطابع الطائر لسعر العملة مزيداً من التعرض لمخاطر ناتجة عن تقلبات طارئة للأوضاع فى الخارج. وبالتالى يصغر المساحة المتاحة لمختلف الخيارات البديلة الممكنة.
تختفى أهداف استراتيجية الإمبريالية السائدة وراء خطاب البنوك العظمى المعنية. وتتلخص هذه الأهداف فى مشروع إفشال مجهود الصين فى تحقيق السبق فى سبيل إقامة منظومة إنتاجية شاملة وحديثة ومستقلة. ولذلك أقول إن الوجه المأمول للعولمة يمثل من التبعية أخطر الوسائل المستخدمة لمنع انعتاق اقتصادات الجنوب، علماً بأن الأمولة تتجلى بالتحديد فى قبول مبدأ تحويلية الصرف الشاملة، أى الانخراط فى إطار نظام الصرف العائم.
وبالتالى فإن رفض التحويلية الشاملة بالنسبة إلى اليوان الصينى يشكل محوراً اسمرار مزاولة سيادة الصين على قرارها.
سابعًا : تختفى هونج كونج وراء بنك HBSC. كانت هونج كونج مستعمرة بريطانية إلى أن عادت السيادة الصينية تحكمها. فكانت البنية الاقتصادية التى أقيمت فى هونج كونج بنية كولونيالية بحتة تسيطر عليها رؤوس الأموال البريطانية، وإن شاركت بورجوازية تجارية كومبرادورية فى أعمالها. وينتمى بنك HBSC لهذه التبعية، فهو بنك تملكه الأموال البريطانية مع مشاركة تجار صينيين.
فليس من الغريب أن يقترح هذا البنك خطاً يسعى إلى تحويل الصين إلى هونج كونج كبرى، أى مستعمرة يسود عليها المال الأجنبى، مع مشاركة طبقة كومبرادور صينيين.
فهل ترضى السلطة الحاكمة فى بيجنج بمثل هذه الخطة؟ أم تسعى استراتيجيتها إلى إنجاز العكس، أى تحويل هونج كونج بالتدريج إلى ولاية صينية حقيقية خاضعة لخطة تنمية صينية فى جوهر أهدافها، خطة تسعى إلى انقلاب العلاقة، أى إخضاع المصالح الأجنبية المشتركة فى الخطة إلى أهداف الصين، لا العكس.
يتحدث البنك HBSC عن تايوان ويقيم مقارنة مفتعلة بين هذه الدولة ودولة الصين. على أن موقف تايوان شاذ. فقد كانت مستعمرة يابانية إلى أن تولى الكومن تانج مسئولية حكمها. ثم استأصل الكومن تانج جذور السيادة اليابانية فى مجال إدارة اقتصاد الولاية. وذلك بالرغم من الطابع الرجعى لحزب الكومن تانج ومشاركة البورجوازية الكومبرادورية فى بنيته.
فصدر هذا الحزب من حركة وطنية حملت مشروعا بورجوازيا، ثم استفاد من موقعه الاستراتيجى فى مواجهة الصين الشيوعية ليكسب تنازلات رفضت الولايات المتحدة أن تقبلها لصالح دول أخرى.
كلمة أخيرة: يمدح بنك HBSC وضع هونج كونج المالى. فيقول: هنا تراكم ضخم لأموال أجنبية دخلت لأن الباب كان مفتوحاً لها. ولكن  البنك لا يقول ما تفعله هذه الأموال، وهى مزاولة المضاربة ولا غير. فإذا حققت البنوك الأجنبية (ومنها  البنك المذكور) أرباحاً طائلة من وراء المضاربة المذكورة فهل هذه الثروة هى ثورة الصين أم ثروة الأموال الأجنبية؟
ثامنًا : يختلف موقف محرر المقال الثانى الذى سوف أقدم تعليقاً بشأنه فيما يلى عن موقف بنك HBSC.
يظل موقف "سوبنها" (الاسم المستعار المذكور فى المراسلة بينى وبين بيجنج فى هذا الصدد) متحفظاً إزاء مبدأ تحويلية اليوان. فيقول إن التطور فى هذا الاتجاه لن يبدأ قبل عام 2020! وإن الدفع "بالبطء" فى هذا الاتجاه مطلوب فى هذا المجال. حسناً. إذ إن "البطء" يتيح فرصة ملاحظة النتائج التى ستترتب على إنجاز الخطوات الأولى فى اتجاه التحويلية. وبالتالى فإذا اتضح أن هذه النتائج سلبية وليست إيجابية (ولا أشك أنه سيكون الأمر كذلك) يظل من الممكن إيقاف الحركة نحو الكارثة! والتعطيل أفضل من التعجيل إذا كان الطريق لابد أن ينتهى بالكارثة!.
لقد اخترع خبراء الرجعية العالمية (البنك الدولى، الاتحاد الأوروبى.. الخ) منهج "العلاج بالصدمة" بالتحديد لجعل إيقاف الكارثة فى الطريق مستحيلاً! يدمر هذا المنهج كل المؤسسات الوطنية ويستورد فوراً مبادىء الليبرالية المنفلتة! هذا هو مضمون "التضحية"! هكذا أدى العلاج بالصدمة الذى أخذ به يلتسين فى روسيا إلى الكارثة الشاملة. ولا ريب أن احتمال خروج روسيا من حالتها الكارثية سوف يحتاج مرور سنوات.
فإذا تأخرت الصين حتى عام 2020 قبل أن تتبنى مبدأ التحويلية، لكان ذلك خيراً. أضيف أن الاحتمال قائم بأن الليبرالية المنفلتة هى نفسها لن تعيش حتى عام 2020. فقد أخذ هذا النظام فى الانفجار وتعمقت أزمته (راجع كتابى عن "انفجار الرأسمالية المعاصرة" المذكور أعلاه). وتثبت التطورات الجارية– على سبيل المثال- أن احتمال بقاء اليورو قائماً إلى هذا الأفق الزمنى أصبح مشكوكاً فيه.
تاسعًا : يذكر الزميل "سوبنها" تصريح زو هسياو شوان- محافظ البنك المركزى الصينى (ألقى هذا التصريح عام 2009)- بأن رفع دور "حقوق السحب الخاصة" (SDR) إلى مستوى وظيفة إحدى العملة العالمية إلى جانب العملات الرئيسية (الدولار، اليورو... الخ) وإلى جانب اليوان الخاضع هو الآخر للتحويلية، قد يمثل حلاً للأزمة المالية العالمية.
وقد قدمت قراءتي بين السطور لهذا التصريح. وتوصلت إلى إنه يطرح حلاً يشبه ما كان كينز قد اقترحه عام 1945: البنكور Bancor.
لقد تصور كينز رفع البنكور إلى مستوى العملة الدولية الوحيدة، لا عملة دولية إلى جانب أخرى. واقترح تحديد قيمته على قاعدة سلة مكونة من أهم العملات المستخدمة فى السوق العالمية وأن تكون نسبة مشاركة كل واحدة من العملات المختارة فى تشكيل السلة هى نسبة استخدام كل منها فى المبادلات الدولية "الحقيقية" بمعنى العمليات المتعلقة بالتبادل التجارى والاستثمار الحقيقى، بعد استبعاد عمليات المضاربة من الحساب.
إنن الغرض من استخدام البنكور كان بالتحديد إغلاق باب المضاربة، وهو عكس الغرض الذى يسعى إلى تحقيقه نظام الصرف العائم، ألا وهو فتح المجال لتفشى المضاربة! وأضاف كينز أن نظام البنكور يقتضى تحديد أسعار العملات الوطنية المختلفة بالبنكور. علماً بأن هذه الأسعار ستكون قابلة للمراجعة من وقت إلى آخر بحيث يؤخذ بالاعتبار اختلاف النتائج المترتبة على اختلاف السياسات المتبعة فى الدول المعنية، فيحافظ النظام المقترح على استقلالية الدول فى تصميم سياستها الاقتصادية.
كنت توصلت إلى هذا الاستنتاج فور قراءتى "بين السطور" لتصريح زو عام 2009 وعندما قلت ذلك فى بيجنج عام 2012 لبعض كبار مسئولى السياسة النقدية لاحظت على شفتهم ابتسامة قد توحى بالموافقة دون الاعتراف الصريح به (أسلوب الدبلوماسية!)
عاشرًا : تثير قضية شراء الصين لأصول أجنبية بعض التساؤلات أود مناقشتها.
أضفت الصين أولوية أولى لتعجيل نمو صادراتها حتى صار معدل هذا النمو يفوق معدل نمو الناتج القومى. الأمر الذى تسبب فى تضخيم مخزون امتلاكتها من العملات الأجنبية (لا سيما الدولار) الناتج عن الفائض الصاعد فى الميزان التجارى للصين. واستثمرت الصين هذا المخرون فى شراء أذونات الخزانة الأمريكية بالأساس، وهو استثمار سلبى الربحية إذ إن سعر فائدة هذه الأذونات يقل عن معدل التضخم المحقق فى الولايات المتحدة.
لعل هذا الخيار كان دون بديل فى مرحلة انطلاق المشروع الصينى حتى التسعينيات. فقد كانت الصين فى حاجة إلى استيراد متصاعد من السلع اللازمة لتعجيل نمو اقتصادها: أدوات إنتاج حديثة وتكنولوجيات متقدمة، مواد خام وطاقة.
بيد أن الصين خطت فى هذا السبيل بخطوات تزيد عن الحاجة الموضوعية. ويدل تضخيم المخزون من الدولار على ذلك.
فما معنى الاستمرار فى هذا السبيل؟ هل يمكن إحلال شراء أصول حقيقية مربحة (مصانع، مناجم، أراضى، مبانى) محل الاستثمار السائل بالدولار؟ هذا الخيار مغرٍ فعلاً. ولكن يحمل فى طيه مخاطر مطلوب حسن تقديرها:
1) لأن هذه الاستثمارات معرضة لمخاطر بينة. بالتأكيد تقوم الدول الإمبريالية باستثمارات من هذا النوع فى بلدان الجنوب. ولكن هذه الدول تتمتع بالوسائل اللازمة لحماية استثماراتها: التهديد بالتدخل العسكرى إذا احتاج الأمر ذلك. بيد أن الصين لا تملك مثل هذه الوسيلة. فلنضرب مثلاً. لنفرض أن الصين احتاجت إلى سحب كمية هامة من استثماراتها بالأذونات الأمريكية لمواجهة كارثة طبيعية. ولنفرض أن الولايات الأمريكية رفضت. ماذا ستفعل الصين: إعلان الحرب على الولايات المتحدة؟
ولنضرب مثلاً آخر. عندما قرر النيدى فى شيلى تأميم مناجم النحاس، ردت واشنطن بالمؤامرة وقامت وكالة المخابرات المركزية CIA بالانقلاب العسكرى المشهور يوم 11 سبتمبر 1973. فهل تملك الصين وسائل تسمح لها بالقيام بمؤامرات متماثلة؟
2) لأن بعض معاملات شراء الصين لأصول حقيقية فى الجنوب تحمل طابعاً سلبياً بالنسبة لاقتصاد الدولة الجنوبية المعنية، ويمثل شراء أراضٍ زراعية فى أفريقيا مثالاً صارخاً.
وتدمر مزاولة مثل هذه السياسات احتمال تكريس جبهة واسعة تضم جميع بلدان الجنوب فى مواجهة الغزو الإمبريالى. وبالتالى تتعرض الصين إلى خطر صاعد فى أن تجد نفسها معزولة فى مواجهة تهديدات أمريكية.
غير أن هناك وسائل أخرى لاستثمار الصين فى الخارج دون إلحاق الضرر بالبلدان المعنية. ولنضرب مثلاً. لنفرض أن الصين تحتاج إلى مزيد من استيراد النحاس. فتقترح على زامبيا الاستثمار فى مناجم النحاس للتصدير إلى الصين. ألا تستطيع الصين فى مقابل ذلك أن تشارك بمعونة فى بناء صناعات تحتاج زمبيا إليها؟ علماً بأن "منظمة الدول المانحة للمعونة" أو تكتل الـ DAT (الدول الغربية والبنك الدولى الخ) ترفض من حيث المبدأ توجيه معوناتها للتصنيع. لذلك أسميتُ هذه المنظمة "نادى النهابين". وإذا تصورنا المشاركة بين الصين وزامبيا فى ملكية هذه المصانع الجديدة، أو أى شكل آخر من المشاركة العادلة، لأصبحت سياسة الصين تدعم تشكيل جبهة قوية للجنوب فى مواجهة مؤامرات الإمبريالية.
ربما كانت السلطات الحاكمة فى الصين فقدت الأمل فى كون مثل هذه السياسة لا تزال واقعية وممكنة. وأعتقد أن هذا الحكم خاطىء.
أنصح زملاءنا بقراءة كتاب يلماز اكيوز "الأزمة المالية والاختلال العالمى" الذى ناقش هذه القضية وقدم حججاً مقنعة.

ملاحظات ختامية
(حول الطابع غير العلمى للاقتصاد الأكاديمى المتداول) يقوم "علم الاقتصاد" المدرس فى الجامعات الغربية، لا سيما فى الولايات المتحدة، على فكرة مسبقة مفادها استمرار فعل "إنسان اقتصادى" عبر التاريخ وتحول النظم، إنسان لم يتغير فى جوهر طابع سماته، فهو "إنسان" ظل ثابتاً فى نوعية تعامله مع الآخرين فى مجال النشاط الاقتصادى، وذلك بالنسبة إلى جميع المجتمعات وسواء كان عاملاً أو فلاحاً أو صاحب بنك. ويقابل هذا "الإنسان الاقتصادى" الآخرين فى "أسواق". بعبارة أخرى يقوم لحم النسيج المجتمعى على فعل الأسواق ولا غير.
ملخص القول أن العلم الاقتصادى المتفق عليه المعنى هنا يتلخص فى أنثروبولوجيا مبسطة لأقصى الحدود، لا تمت للأنثروبولوجيا العلمية بصلة! بيد أن "علماء" هذا النوع من الاقتصاد يتجاهلون غيرها من الوسائل العلمية للتحرى فى مجال الشئون الاجتماعية والاقتصادية. فيكتفون للتوصل إلى نتائجهم باستخلاص ما يمكن استخلاصه من فعل منطق التعامل بين الأفراد فى الأسواق المتخيلة.
ليس هذا الأسلوب فى مزاولة الفكر جديداً فى تاريخ الإنسانية. كان قدماء الصينيين يؤمنون بوجود التنين. فاستخدم مفكرون أذكياء عقلانيتهم لاستدراج النتائج التى قد تترتب على أفعال هذه الكائنات الخيالية. وكذلك ناقش علماء اللاهوت المسيحى فى القرون الوسطى قضية "جنس الملائكة" وكان أذكياء من هؤلاء العلماء مقتنعين بأن الإجابة الصحيحة على هذا السؤال سوف تساعد فى تفسير ظواهر خاصة بالطبيعة وبالمجتمع.
ينتمى منهج "علم الاقتصاد المتفق عليه" إلى هذه المدرسة من حيث المنهج. ينطلق من فكرة مسبقة خيالية. بل أكثر من ذلك. يلجأ علماء الاقتصاد إلى لغة خاصة بهم فى عرض تسلسل استنتاجاتهم، لغة غير مفهومة خارج حلقاتهم، ويقبل  الجمهور هذه الاستنتاجات على أساس "علمية الخبراء" المزعومة. كما كان "علماء" الماضى، أصحاب السحر يفعلون!
فإذا انطلقت من موضوعة مسبقة خيالية، يمكنك أن تستخلص منها كل شىء وعكسه، أى لا شىء مؤكد فى واقع الأمر. ويستخدم علماء الاقتصاد المعنيون منهجاً قائماً على تصور فعل "التوقعات" التى تتحكم فى تعامل الفاعلين فى السوق. فالإنسان الاقتصادى "يتوقع" كذا وكذا. ويؤثر هذا التوقع على قراره (يشترى أم يمتنع عن الشراء؟).
فلا ريب أن النتيجة متوقفة على "التوقعات" وبما أن التوقعات غير معروفة سابقاً، بل غير محددة (فيمكن أن تكون كذا أو عكسه)، فالنتيجة هى الأخرى غير معروفة قبل أن تحدث، فيقول العالم الاقتصادى: هذا حدث لأن التوقعات أدت إلى تحقيقه! لا تبذل الجامعة جهودها لإنماء ذكاء الطالب بل لجعل هذا الذكاء عقيماً.
فإذا كان السؤال فارغ المعنى (مثل: ما هى سمات التنين، أو ما هو جنس الملائكة)؟، يصبح استخدامك للمنطق عقيماً. خلاصة القول إن علم الاقتصاد المتفق عليه ليس علماً بل شبه علم. وقد قام مفكرو هذا العلم بإقامة هذه البنية الغربية من أجل التخلص من ماركس ورفض مقولاته حول الطابع التاريخى "للقوانين" التى تحكم فعل المجتمع وتطوره. فلا يتجاوز هذا العلم حدود الأيديولوجيا بمعناها المبتذل (المرادف لـ "بروباجندا")، فى خدمة المصالح المسيطرة فى المجتمع الرأسمالى، الغرض منها إضفاء شرعية على سلوك أصحاب القرار الحقيقى.            

RUSSIA IN THE GLOBAL SYSTEM (arabic)



روسيا فى المنظومة العالمية

سمير أمين

عادت روسيا تحتل مكانتها فى الساحة السياسية الدولية بصفتها قوة عظمى. لعل المناسبة أتت لنشر هذين المقالين حول تاريخ روسيا ثم الاتحاد السوفيتى.
كتبت أولهما فى أعقاب انهيار النظام السوفيتى وتم نشره بلغات عديدة غير العربية. ثم كتبت الثاني حديثًا.

روسيا: فعل العامل الجغرافى فى مسيرة تاريخ روسيا الكبرى
يخاطب الانهير مزدوج الوجهين للنظام السوفيتى بصفته مشروعاً اشتراكياً، ولروسيا بصفتها قوة عظمى، النظريات التى طُرحت فى مجال النضال بين الرأسمالية والاشتراكية من جانب، وفى مجال تحليل مكانة ووظيفة مختلف المناطق التى تتشكل منها المنظومة العالمية المعاصرة من الجانب الآخر.
ولذلك كنت اخترت العنوان الفرعى للمقال –"جغرافيا أم تاريخ؟" لافتًا النظر إلى التساؤل عما إذا كانت الظروف التاريخية (والمقصود هنا تلك الظروف التى أتاحت انتصار ثورة 1917) هى التى تحكمت فى تطور الأمور، أم إذا كانت سمات جغرافيا المكان هى التى تلقى مزيداً من الضوء على مكانة روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفيتى فى المنظومة الرأسمالية العالمية المعاصرة.

1- تمحور التحليل الماركسى التاريخى، ولا سيما تعبيره السوفيتى اللينينى، حول قضية الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، وبالتالى قضايا إنجاز الثورة وبناء الاشتراكية.
وتبلورت هذه النظرية – انطلاقاً من لينين- حول النقاط الأربع التالية:
1- لابد أن يؤدى صعود الصراع الطبقى الأساسى (الصراع بين البورجوازية والبروليتاريا) إلى الثورة الاشتراكية على صعيد عالمى.
2- ينطلق التحرك نحو الثورة ذات البعد العالمى من تلك البلدان (مثل روسيا ثم الصين) التى تمثل "الحلقات الضعيفة" فى المنظومة العالمية، وذلك لأسباب يتوجب اكتشافها وتوضيحها.
3- يمكن بناء الاشتراكية فى تلك البلدان، بالرغم من تخلفها الموروث من تاريخ التوسع الرأسمالى على صعيد عالمى.
4- يتجلى الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية فى التضاد والمنافسة بين النظامين، أى نظام الدول الاشتراكية من جانب، ونظام الدول التى ظلت أسيرة الرأسمالية من الجانب الآخر.
يعطى هذا المنهج نوعا من الأولوية للتغيرات على صعيد أنماط الإنتاج المترتبة على إنماء قوى الإنتاج، وذلك من خلال تركيز مجرد الطابع على التناقض بين هذين المستويين من الواقع. فيضع الخصوصيات التى تتسم بها مختلف "مناطق" المنظومة العالمية فى هذا الإطار المجرد.
وإن كان فكر ماركس لا يتلخص فى هذا المنهج، إلا أنه ساد فى الماركسية التاريخية. وبالتالى حدث نوع من المغالاة المجردة والتبسيط لفكر ماركس، تجلى فى طرح النقاط الأربعة المذكورة فى صيغة مطلقة.
بذل التيار الذى أطلق فالرشتين عليه اسم "الاقتصاد- العالم" الجهد لتعديل هذا التبسيط، حتى لوى العصا فى الاتجاه المعكوس، أى بعبارة أخرى أحل مغالاة معكوسة تحل محل المغالاة فى التبسيط الماركسى التاريخى. على سبيل المثال قدم هذا التيار تفسيراً لما أصبح دور الاتحاد السوفيتى يرجع تطوره إلى فعل القوى التى تحكمت فى تطور الكل (والمقصود التى تحكمت على صعيد عالمى). وعلى هذا الأساس قدم تفسيراً لانهيار النظام السوفيتى يرجعه إلى التطور الذى طرأ على صعيد المنظومة العالمية، الأمر الذى شجع خفض تقويم فعل التناقضات الداخلية الخاصة بالنمط الاشتراكى المعنى. فإذا كانت الماركسية المبسطة تكاد تهتم فقط بـ "صراع الطبقات" فى تفسيرها للتاريخ، فإن تيار "الاقتصاد- العالم" يكاد يتجاهله، فيوصى بأن هذا الصراع لا يغير مسيرة التاريخ، بل يظهر فقط سر المسيرة الإجبارية التى يفرضها تطور المنظومة العالمية، فهنا يتحكم الكل (العالم) فى الخاص (مناطق العالم)، بينما النظرة الماركسية المبسطة توحى بأن الطابع اللامتكافىء واللامتوازى فى تطور الأطراف (الدول، الأقاليم) ينتج تطور الكل (المنظومة العالمية).
وبما أن "الأطراف" التى تتشكل منها المنظومة العالمية هى دول أو مجموعة دول (أقاليم) تجد مكانها فى جغرافيا العالم، فإن التيار المذكور الذى لوى العصا فى الاتجاه المعنى يمكن أن يُطلق عليه مصطلح  "النظرة الجغرافية"، فى مقابل "النظرة التاريخية المفقودة".
أرفض هذين النهجين المغاليين، وبذلت مجهوداً لتخطى التبسيط الذى يتسم به كل منهما، فقلت إن الخصوصيات (السمات الخاصة لمختلف أقاليم المنظومة العالمية) نتاج تفاعل العام الذى يتجلى فى فعل القوى التى تتحكم فى مسيرة التاريخ العام لجميع الشعوب، والخاص الذى يتجلى فى تنوع أشكال تكيف المسيرات الجزئية لمقتضيات فعل العام.
وهنا، فى هذا المقال المخصص لتاريخ روسيا ثم الاتحاد السوفيتى، أنطلق من العودة إلى نقاش أطروحات نظرية طُرحت فى حلقات علماء التاريخ فى روسيا حول "خصوصية الإقليم الأوروبى- الآسيوى"، ومنهم تروبلسكوى الذى تمتع بشهرة فى عشرينيات القرن السابق ثم أُطمس فيما بعد مع سيادة النظرة السوفيتية الدجمائية والمبسطة. ثم عادت أطروحات تروبلسكوى تحتل مكانها فى المسرح، وأثارت صدى فى روسيا والصين والهند، وإن ظلت مجهولة فى باقى العالم. 
أنطلق من هذا النقاش لأننى أعتقد أن تاريخ روسيا/ الاتحاد السوفيتى ضرب من أفضل الأمثلة لما سبق أن قلته حول ضرورة تخطى المنهجين المذكورين فى نقدى. علماً بأن هذا التخطى لا يعنى "طمس الماركسية"، بل على نقيضه إغناءها ودفعها إلى الأمام فى قدرتها التفسيرية.
2- سبق أن كتبت عن "المنظومة العالمية" التى تخص القرون الخمسة بين عام 1000 وعام 1500 ميلادى. ووصفتها بأنها تتشكل من ثلاثة أقاليم "متقدمة"- هى الصين والهند والشرق الأوسط وإضافة إقليم رابع إليها– أوروبا- شهدت تقدماً سريعاً خلال المرحلة المعنية. حتى تجمعت عندها أهم التغيرات التى استعجلت التطور نحو الرأسمالية فى هذه المنطقة الهامشية حتى عام 1000.
وفى هذا الإطار العام اعتبرت أن ما حدث "فى المحيط" الشاسع الذى يفصل ويربط معاً أوروبا من جانب وشرق آسيا من الجانب الآخر (أى روسيا الكبرى) نتاج تفاعل آليات التمفصل بين هذه الأقطاب الأربعة المشكلة لما أسميته "منظومة العالم القديم" (أقصد الذى سبق إقامة المنظومة الرأسمالية المعاصرة).
وطرحت فى هذا الإطار الأسئلة التى تمثل الإجابة عليها جوهر تفسير علمى لنشأة الرأسمالية التاريخية، وهى أسئلة تخص:-

أولا : ديناميكيات التحولات التى طرأت على مختلف الأصعدة المحلية لكل من هذه الأقطاب الأربعة) فى مواجهة التحدى العام. علماً بأن الصراع الطبقى– بالمعنى الواسع للكلمة-يتحكم فى هذه الديناميكيات فيحدد مدى ومغزى التحولات.

ثانياً : تمفصل ما ترتب على حدوث هذه التحولات المحلية فى تكوين المنظومة العالمية المعنية من عناصر تطور وتكامل وتناقض الأدوار التى لعبها كل إقليم من الأقاليم الأربعة المذكورة خلال المرحلة المعنية (من 1000 إلى 1500 مع امتدادها إلى عام 1800).
3- يُظهر التحرى فى تاريخ تطور المنظومة القديمة تفوق الشرق الصينى والهندى. فقد ضمت الصين والهند أغلبية سكان تلك المنظومة العالمية القديمة، بل أخذ عدد سكان آسيا الشرقية والجنوبية فى الصعود المتواصل، فارتفع من 50 مليون لكل من الصين والهند قرنين قبل الميلاد إلى 330 و 200 مليون على التوالى حول عام 1800، و 450 و 300 مليون حول عام 1850. هذا بينما ظل عدد سكان "إقليم الشرق الأوسط" ثابتاً إن لم يكن قد تناقص. فبلغ عدد السكان فى هذه المنطقة حوالى 50 مليون فى العصر الهلنستى (وهو غالباً أرقى مستوى بلغته المنطقة) ثم استتب حول 35 مليون عشية الثورة الصناعية والفتح الأوروبى. فلنتذكر أن عدد سكان مصر الفرعونية الذى بلغ 10 أو 14 مليونا فى بعض حقبات تاريخها انخفض إلى حوالى 2 مليون حول عام 1800. وكذلك تدهورت الأمور فى بلاد الرافدين والشام.
وقد ظل عدد سكان القارة الأوروبية منخفضًا (حوالى 30 مليون) حتى القرن العاشر ميلادى ثم انفجر حتى بلغ 180 مليون حول عام 1800 و 200 مليون حول عام 1850.
يضاف إلى هذه الملاحظات حول تطور حجم سكان أقاليم المنظومة ملاحظة ذات أهمية حاسمة، تخص إنتاجية العمل الاجتماعى التى ظلت فى صالح الصين طوال الحقبة الطويلة (إلى ما بعد الثورة الصناعية). فتمتعت الصين بمستوى أعلى من الرفاهية وهذا صحيح أيضاً بالنسبة إلى الهند حتى الغزو البريطانى (بين النصف الثانى من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التالى).
تتجلى فى هذه الأوضاع الأسباب التى روت- عندما وعت أوروبا بتقدمها انطلاقاً من النهضة (حول 1500)- طموحاتها الحاسدة فى التوصل إلى الشرق الآسيوى الثرى. وذكر كتاب "إتيمبل" المشهور ("أوروبا الصينية") هذا الوعى بأن الصين قدم أفضل نمط فى إدارة الدولة والاقتصاد، والتكنولوجيات الأكثر تقدماً. كما أوضح "إميابجشى" دور نهب ثروات الهند فى تفوق بريطانيا على منافسيها فى القرن التاسع عشر. فقام تقدم الصناعات الإنجليزية الأولى (النسيج) على أساس تفكيك القدرات الإنتاجية الهندية المتفوقة، وذلك من خلال متابعة برامج ممنهجة لهدمها.
ينبغى وضع مسيرة الإقليم الوسيط، المشكل من الشرق الأوسط من جانب وروسيا الكبرى من الجانب الآخر، فى هذا الإطار.
ورثت منطقة الشرق الأوسط وضعية متقدمة نشأت مع جمع الحضارات القديمة (مصر وإيران وبلاد الرافدين والشام واليونان) فى ظل الحضارة الهلنستية ثم الإسلامية، بالإضافة إلى أن الإقليم قد استفاد من مركزه الوسيط المحتكر للعلاقات التجارية بين أوروبا وشرق/ جنوب آسيا. بيد أن أوضاع المنطقة أخذت فى الركود المتواصل أو يكاد فيما بعد. فأنتج هذا الركود نتيجتين هامتين. أولاهما إدراك الوعى الأوروبى- انطلاقاً من حروب الأفرنج ("الحروب الصليبية") أن أهمية الشرق الأدنى لا تكمن فى ثرواتها الذاتية بل في مكانتها للسيطرة على طرق التجارة البعيدة. الأمر الذى دفع الأوروبيين تجاه البحث عن طرق بديلة؛ وفتح الطرق عبر المحيط الأطلسى والمحيط الهندى وبحر الصين. والنتيجة الثانية أن الصين والهند حولتا نظرهم من التوجه نحو الغرب إلى التوجه نحو الشرق والجنوب الشرقى، المشكل من كوريا واليابان والهند الصينية (فيتنام وتايلاند وبورما وماليزيا). فلم يعد القطبان الصينى والهندى يواصلان النظر إلى الشرق الأدنى المتدهور.
هكذا انتقلت المبادرة إلى أوروبا فأصبحت السيطرة على البحار من جانب وعلى الإقليم القارى الوسيط الروسى من الجانب الآخر، الوسيلة الجديدة المفضلة لتأسيس علاقات تجارية مربحة بين القطب الأوروبى الصاعد والقطبين الآسيويين (الصين والهند). وتنافس كلا الطريقين (الطريق البحرى والطريق القارى عبر روسيا) من أجل تحقيق الهدف.
4- أصبحت سيطرة أوروبا على البحار تمثل جوهر التحدى بالنسبة إلى إقليم الشرق العربى/ التركى/ الإيرانى الإسلامى وإلى إقليم أور-آسيا الروسى.
ظلت أوروبا- شمال شرق المتوسط الرومانى الإغريقى سابقاً- فى وضع هامشى فى النظام العالمى حتى القرن العاشر، فكانت تشكيلاتها الاجتماعية- شأنها فى ذلك شأن أفريقيا جنوب الصحراء- لم تتخط بعد حدود المشاعات الأولى. كما شهدت القارة أمواجاً متتالية من هجرة "القبائل" المكونة لشعوبها وذلك على مسافات طويلة.
بيد أن هذه المنطقة المتخلفة قد انتقلت إلى نهضتها باكراً. وقد قدمت تفسيراً لهذه "المعجزة" قائماً على بيان الميزة التى مثلها الشكل الخاص الذى اتخذه النمط الخراجى فى أوروبا. فساد هناك تفتت اقطاعى فى ممارسة السلطة على خلاف تمركز هذه السلطة فى الشكل المتقدم للنمط الخراجى (لا سيما فى الصين). فظلت فكرة مركزية السلطة منحصرة على طموحات البابا (وريث الإمبراطور الرومانى) فى تمثيل "وحدة العالم المسيحى"، وهى وحدة رمزية لم تعط للبابا سلطة سياسية حقيقية تذكر فى إدارة الممالك الإقطاعية الأوروبية.
ومر الانتقال إلى الرأسمالية عبر حقب متتالية سريعة، وتمثلت أولى هذه الحقب فى الحروب الإفرنجية التى دفعت "الإفرنج" (فرنسيين وإنجليز وألمان) فى سبيل مشروع السيطرة على "طرق الحرير" من خلال الاستيلاء على الشرق الأدنى الإسلامى والشرق الأدنى البيزنطى الأرثوذكسى. وينبغى التشديد فى هذه النقطة: "فالعدو" لم يكن "المسلمين" فقط بل على قدم المساواة: "المسيحيون الأرثوذكس" للدولة البيزنطية. وخسرت أوروبا الإفرنجية حربها ضد الخلافة الإسلامية التى طردتها من الأراضى المحتلة. ولكن هذه الحروب الإفرنجية دمرت الدولة البيزنطية، الأمر الذى يسر فيما بعد اختفاءها لصالح الفاتح العثمانى.
بيد أن "انتصار" المسلمين" أخفى فى طياته هزيمة تاريخية. فوجهت أوروبا أنظارها فى اتجاه البحر، وفى نهاية المطاف ساهمت سيطرتها على البحر فى تدهور الأوضاع فى الشرق الأدنى الإسلامى الذى فقد احتكاره على طرق الحرير، وبدوره يسر تدهور الإقليم أن تبسط القبائل التركية والمغولية سلطتها على أراضيه. علماً بأن القيادات العربية الإسلامية شاركت فى تسهيل استيلاء الأتراك على أراضيها بدعوتها "للإنقاذ من الإفرنج".
استفادت المدن الإيطالية من حروب الإفرنج، فبسطت سيطرتها على الملاحة فى المتوسط. ولنذكر هنا أن شخصين إيطاليين فتحا الطريقين الجديدين للوصول إلى الشرق الآسيوى: كولومبو الذى عبر الأطلسى (واكتشف أمريكا فى طريقه إلى آسيا) وماركو بولو الذى عبر المحيط القارى الروسى- المغولى.
5- دخل المحيط القارى الروسى المغولى (الذى أصبح روسيا) فى التاريخ المعاصر فى هذه اللحظة بالتحديد. فهمش فتح هذا الطريق القارى الجديد بين أوروبا والصين الطريق القديم عبر الشرق الأدنى الإسلامى.
فأصبح الصراع بين مختلف الشعوب التى تسكن الإقليم الأورو- آسيوى صراعاً تاريخياً حاسماً. تعارض من خلاله تكتلان: تكتل الشعوب الروسية التى خرجت من منطقة الغابات الدائمة الشمالية من جانب، وتكتل الشعوب المغولية الرعاة الذين احتلوا السهول الواقعة فى جنوب الإقليم.
وكسبت روسيا المعركة عبر سلسلة حروب أدت إلى إقامة الإمبراطورية القيصرية واستيلائها على الإقليم بشموله من بولندا إلى المحيط الهادى، ومن المحيط الشمالى إلى بحر قزوين وجبال القوقاز وحدود إيران وأفغانستان.
اكتسبت التشكيلة الاجتماعية لهذا الإقليم الروسى الشاسع سمات خاصة بها، تميزها عن التشكيلات الأوروبية من جانب، وعن التشكيلة الصينية من الجانب الآخر.
يقال عادة بهذا الصدد إن روسيا "نصف أوروبية ونصف آسيوية"، علماً بأن النعت "آسيوى" يحمل معنى سلبياً. أقول إن هذا الحكم سريع وسطحى.
قطعاً كانت الإدارة السياسية للتشكيلة الروسية "أوتوقراطية". بيد أن السمة ذاتها تنطبق على النظم الملكية الأوروبية المطلقة التى سادت خلال قرون حتى ثورة انجلترا عام 1683 وثورة فرنسا عام 1789.
على أن وسائل إدارة هذه السلطة الأوتوقراطية على منطقة شاسعة (من بولندا إلى أقصى سيبيريا الشرقية) اختلفت عن ممارسات الملكية الأوتوقراطية فى دول غرب أوربا الصغيرة. توجهت الممالك الأوروبية الأطلسية الأربع (انجلترا، فرنسا، أسبانيا، البرتغال)- بعد اكتشاف أمريكا- إلى استعمارها. فأقام الأوروبيون فيها نظماً كولونيالية خاضعة لقوانين خاصة بها، متميزة عن القوانين السائدة فى الدول الأم. على سبيل المثال أقاموا فى أمريكا أشكالاً إنتاجية تعتمد على العبيد المنقولين من أفريقيا، بينما لم يسمحوا بنظام الرق على أراضى الدولة الأم.
سارت روسيا فى سبيل مختلف، فأخضع الروس الشعوب ذات الأصول غير الروسية، المقهورة والمنضمة فى الإمبراطورية، لنفس القوانين التى حكمت بها الطبقة الروسية القائدة شعبها الأصلى. علماً طبعاً بأن هذه القوانين فرضت القمع الإمبراطورى على الجميع واستغلالهم بنفس الأساليب.
فانحصرت "هيمنة الروس"– وهو أمر حقيقى- على المجال الثقافى (فكانت اللغة الروسية هى الوحيدة المعترف بها).
وعندما تطلق وسائل الإعلام الغربية نفس النعت على "جميع الإمبراطوريات" وتماثلها فى نمط واحد (نتحدث عن الإمبراطورية الرومانية القديمة، العثمانية، البريطانية الحديثة، الروسية .. الخ) عبر التاريخ، فإنها تقدم مقولة غير علمية، وخادعة تماماً.
ولكن الإقليم الأورو- آسيوى لم يقم بوظيفة المحيط الرابط لأوروبا بالصين إلا خلال حقبة قصيرة تمتد من 1250 إلى 1500 إذ حل الطريق البحرى مكانها انطلاقاً من 1500 ولم يكن هذا التحول جغرافيا بحتا. فقد اكتشف الأوروبيون أمريكا فى الطريق واستعمروها وحولوها إلى تخوم الرأسمالية الناشئة، وذلك قبل أن يستعمروا آسيا الشرقية والجنوبية وأفريقيا حيث أقاموا نظم استغلال كولونيالى. هذا بينما حافظ الإقليم الأورو- آسيوى الذى أصبح روسيا على استقلاله.
6- همش اكتشاف الطريق البحرى دور الإقليم الأورو- آسيوى انطلاقاً من 1500 إلى 1900 وقد واجه الروس هذا التحدى بأسلوب فعال لامع.
ففى عام 1517، أى بضع سنوات فقط بعد سفر كولومبو عبر الأطلسى، أخرج الراهب فلوفاوس تصريحاً تاريخياً مفاده أن موسكو أصبحت روما الثالثة (بعد روما، ثم القسطنطينية). كان مغزى هذا التصريح إيذاناً بأن روسيا ستتولى مسئولية بسط سيطرتها على الإقليم الأورو- آسيوى الشاسع.
وقد حمَّل بعض المفكرين الروس فى العصر الحديث- ومنهم برديايف- المقتنعين بسلامة المنهج والهدف، حملوا روسيا مسئولية تحقيق هذه "النبوءة" لصالح الإنسانية بأجمعها! بل أضاف برديايف بعد قيام ثورة 1917 أن "الشيوعية تمثل الآن هذه النبوءة"!
وإن كان مثل هذا التفسير مرفوضاً (وأنا أرفضه بلا تردد!) لغياب تأسيسه على أدنى قاعدة علمية ولخطورة النتائج التى تترتب على تنفيذه، إلا أنه يفسر أهداف ومنهج السياسة التى اتبعتها روسيا حتى ثورة 1917 التى توجهت اتجاهاً آخر (ولذلك قلت روسيا القيصرية لا الاتحاد السوفيتى!)
فتركز مجهود روسيا على الجمع بين تطوير مجتمع مستقل متمركز على الذات وبين الانفتاح على الغرب ("المسيحى" هو الآخر، ولو "المسيحى المزيف" فى نظر الأرثوذكس!).
نجحت روسيا فى هذا المشروع الذى لا مثيل له من حيث المساحة الشاسعة التى غطاها، كما نجحت الولايات المتحدة هى الأخرى فى بناء دولة/ وطن على صعيد قارى. ويلاحظ أن الأمريكيين لجأو أيضاً إلى لغة النبوءة، فأطلقوا على مشروعهم نعت "إسرائيل الجديدة". غير أن الروس فى توسعهم القارى "استوعبوا" الشعوب المقهورة، بينما الأمريكان لجأوا إلى إبادة الهنود!
ولكن يبدو- مع مرور الزمن- أن نجاح الولايات المتحدة فى مشروعها تفوق بمراحل على إنجازات روسيا فى مشروعها. ويلجأ البعض فى تفسير الفرق إلى الميزة الخاصة التى تمتعت بها أمريكا: غياب وراثة "إقطاعية"، بحيث أن العلاقات الرأسمالية التى أقيمت على أرضيتها استطاعت أن تنمو بدون عائق فى سبيلها، بينما روسيا القيصرية ظلت "إقطاعية" فى عقائدها وأشكال تنظيم سلطتها.
أعتقد أن هذا التفسير يحمل شيئاً من الصحة. بيد أن هناك عوامل أخرى قد لعبت فى صالح أمريكا. فبالمقارنة مع روسيا استفادت أمريكا من عزلة جغرافية منعت عملياً التدخل فى شئونها، فظلت محمية من إصابتها بالمدافع وذلك حتى العصر الحديث القريب حين أصبح استخدام الصواريخ لا يترك أى منطقة من الكوكب- دون استثناء- بعيداً عن مناله.
فلم يتواجد أمام مشروع التوسع الأمريكى عدو يذكر. ولم تمثل المكسيك عائقاً، فأصبح هو نفسه فريسة التوسع الأمريكى.
اختلفت الأمور بالنسبة إلى روسيا التى عانت من الصدام العسكرى المباشر مع القوى الأوروبية العظمى والذى تجلى فى حملة نابوليون، ثم حرب القرم (عام 1854)، ثم الحربين العالميتين.
فلم يكن من الممكن تفادى التفاعل بين سياسة روسيا وسياسة أوروبا. بل اختارت سان بترسبورج هذا السبيل عمدًا إذ لم يتصور النظام القيصرى لحظة اتخاذ موقف "الحياد" إزاء الشئون الأوروبية، بل اعتبر نفسه طرفاً فيها. وكذلك فإن الاتحاد السوفيتى هو الآخر- ولو من موقف مختلف بشكل   جذري - اعتتبر نفسه جزءًا من الصراع الطبقى على صعيد عالمى بين الطبقة العاملة حامل المشروع الاشتراكى وبين رأس المال العالمى، فكلا النظامين- القيصرى والسوفيتى- رفضا العزلة بدعوى الخصوصية المزعومة- سواء كانت خصوصية الشعوب السلافية أم خصوصية الطابع الأوروآسيوى لروسيا.

مكانة الاتحاد السوفيتى فى المنظومة العالمية
مثلت ثورة 1917 قطيعة فى تاريخ شعوب الاتحاد السوفيتى، وهى شعوب الإمبراطورية القيصرية سابقاً. فلا يصح اعتبار أن هناك مسيرة متواصلة فى تاريخ "روسيا الكبرى" مرت بمرحلة "سوفيتية" قبل أن ترجع لأصولها "الروسية" بعد انهيار المشروع الشيوعى.
لقد خلقت سيادة الرأسمالية المعاصرة جديداً حقيقياً وحاسماً أصبح يتحكم فى شئون جميع شعوب الكوكب. ويظل تحليل ماركس فى هذا الشأن صائباً وحاسماً. ويتجلى التحدى الجديد الذى تواجهه جميع الشعوب فى ضرورة تخطى نمط التراكم الرأسمالى. فلم يكن المشروع السوفيتى نتاج إلهام "نبوى" كما قال برديايف.
فتقع الأسئلة الصحيحة التى طرحتها ثورة 1917 فى مجالات أخرى تماماً، وهى: أولاً، ما هى الأسباب التى أتاحت انطلاق الحركة نحو الاشتراكية من روسيا "المتأخرة" وليس من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية "المتقدمة"؟ وثانياً: ماذا حققت الحقبة السوفيتية وماذا ما لم تحققه؟
لن أعود هنا إلى هذه الأسئلة التى تناولت نقاشها فى كتابات تفصيلية أخرى. فأرجو أن يرجع القارىء فى هذا الصدد إلى دراستى الحديثة المعنونة "الوحدة والتعددية فى الحركة نحو الاشتراكية".
أكتفى هنا بالقول إن المجتمع السوفيتى أقيم بالفعل على أساس رغبة منهجية فى "بناء الاشتراكية" على أراضيه. ولكن النظام استتب فى شكل "اشتراكية دولة"، ثم تحجر فلم يتخط هذه المرحلة الأولى، الأمر الذى أتاح انقلابه فى نهاية المطاف لصالح العودة إلى الرأسمالية.
أضيف نقطة تبدو لى رئيسية لإدراك ما حدث بعد انهيار النظام فى مجال العلاقات بين الأمة الروسية والأمم الأخرى المكونة الاتحاد السابق.
لم تواصل السياسة السوفيتية ممارسات النظام القيصرى فى هذا المجال فأقيم الاتحاد على قاعدة تعترف وتحترم تنوع القوميات، حلت محل مبدأ "الاستيعاب" ("التماثل")- ولو الظاهر أكثر منه الحقيقى- الذى مارسه النظام القيصرى.
بل أكثر من ذلك أقيم النظام الاقتصادى السوفيتى على قاعدة إعادة توزيع فوائد التنمية المشتركة لصالح المناطق الأقل نمواً، علماً بأن الشعوب "غير الروسية" هى التى استفادت من هذا الخط العام الجديد. فانتقل استخدام الفائض المستخرج من المناطق الأكثر تقدماً (روسيا الغربية، وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق) للاستثمار فى المناطق الأقل نمواً (سيبيريا، آسيا الوسطى، الجمهوريات جنوب القوقاز). وساد نظام تماثل ومساواة الأجور والحقوق الاجتماعية. وهو مبدأ يناقض تماماً المبدأ الذى يحكم الرأسمالية، وهو التفاوت فى مستوى الأجور بين المراكز والتخوم. بعبارة أخرى اخترعت السلطة السوفيتية مبدأ "المعونة" الحقيقية، وهو مبدأ لا تزال الرأسمالية تتجاهله فى ممارساتها الواقعية، بالرغم من كلامها حول "لمعونة الدولية"!
أرجع إلى الموضوع الذى أود أن أتناوله هنا: وصف سمات النظام السوفيتى فى مرحلته الأخيرة، قبل السقوط. أقصد إذن وصف النظام "المتحجر" لعصر حكم برجنيف.
أولاً : نظام قائم على مبدأ "الطائفية":
وليس المقصود "طائفية" قائمة على الانتماء القومى أو الاجتماعى طبعاً، بل المقصود هو تكوين "تكتلات" مصلحية تجمع معاً أصحاب القرار والعمال الفاعلين فى قطاع إنتاجى معين. على سبيل المثال تكتل يضم أصحاب القرار فى الصناعة المعدنية والعمال المستخدمين فى هذا القطاع.
فأصبح كل من هذه التكتلات "مركز قوة" يدخل فى التفاوض (لعل كلمة مساومة تعطى المعنى!) مع مراكز القوة الأخرى من أجل تصميم أهداف الخطة العامة وتوزيع الفوائد المستخرجة منها: وصار الجوسبلان المكان الذى حلت فيه هذه "المفاوضات- المساومات". وصارت النقابات جزءًا من المنظومة بصفتها المؤسسة التى تتناول مسئولية إدارة الشئون الاجتماعية والفوائد المستخرجة منها لصالح العمال (مدارس، مستشفيات، سكن، معاشات الخ).
لعب مبدأ الطائفية الموصوف هنا دوراً حاسماً، فحل محل "الربحية" التى تتحكم فى إعادة تكوين التوسع الرأسمالى. فتجلى عمل هذا المبدأ فى "السوق السوفيتية" وأعطى له طابعاً مختلفاً عما هو عليه فى واقع عمل السوق فى الرأسمالية. علماً بأن الطابع "العقلانى" للخطة الناتجة عن هذه المساومات الجماعية يظل موضوع تساؤل.
أدى العمل طبقاً لمبدأ "الطائفية" فى ظروف تحجر النظام إلى صعود تناقضات جديدة بين مختلف الأقاليم الجغرافية المكونة الاتحاد. فكان لكل تكتل من التكتلات المعنية وجود فى مناطق معينة، بينما غاب فى مناطق أخرى، علماً أيضاً بأن هذا التقسيم الجغرافى لم يمت بصلة بتقسيم السلطة بين القوميات. على سبيل المثال هناك تكتل معين يمكن أن يكون له وجود فى إقليم روسى وفى إقليم آخر فى اوزبكستان ولا وجود له فى جورجيا.... الخ.

ثانياً : نظام سلطة أتوقراطية
أقصد هنا غياب ممارسة الديموقراطية فى إدارة السياسة العامة، سواء كانت طبقاً للنمط الغربى (القائم على الانتخابات المتعددة الأحزاب) أم للنمط المتفوق الذى تصورت إقامته ثورة 1917.
على أن هذا القول لا يرادف قبول نظرية "نظام التوتاليتارية" (الشمولية) الذى تكرر وسائل الإعلام الغربية الحديث عنه بلا ملل. فقد اختفى وراء "الأوتوقراطية" الظاهرة فى اتخاذ القرار تفاوض حقيقى بين التكتلات التى مثلت تنوع المصالح الجماعية ومراكز القوة.  
وبدلاً من الحديث المجرد والمبسط عن "الأتوقراطية" أقول إن النظام تجلى فى هرم من السلطات المتجسمة في   مؤسسات إقليمية (ولا سيما فى توزيع ممارسة القرار بين مختلف الجمهوريات). وقد يسر هذا الوضع انفجار الاتحاد فى نهاية المطاف.


ثالثاً: استقرار النظام الاجتماعى
لا أنكر على الإطلاق تواجد ممارسة العنف فى واقع التاريخ السوفيتى. وتعددت مصادر العنف المعنى.
  انفجرت الموجة الأولى من العنف بمناسبة التعارض الصاعد بين هؤلاء "الواقعيين"- الذين أعطوا الأولوية للحاق– أى إنماء قوى الإنتاج- وأولئك الذين تمسكوا بتنفيذ الوجه الآخر من المشروع، وهو إقامة علاقات اجتماعية جديدة ذات طابع اشتراكى صحيح. علماً بأن هذا التناقض لم يكن مفتعلاً، بل انعكاساً لواقع تناقض صحيح صاحب انتصار الثورة فى منطقة تخومية سابقاً فى المنظومة الرأسمالية العالمية.
تلت هذه الموجة الأولى ما ترتب على انتصار النظرة "الواقعية"، وهو استخدام العنف من أجل استعجال عملية التصنيع. علماً بأن وسائل عنف شبيهة قد استخدمت فى تاريخ التراكم الرأسمالى! اذكر هنا شُح الإسكان وغيرها من ظواهر الفقر.
يحل المصدر الرئيسى فى استخدام العنف السوفيتى فى مجال ممارساته مع الفلاحين. فقد ألقى قرار إنشاء الكولخوزات عبء تمويل التصنيع على كتف صغار الفلاحين، حتى أنهى هذا القرار تحالف العمال والفلاحين الذى أتاح انتصار الثورة. هذه القصة معروفة تماماً.
وينبغى– عندما نتناول مقارنة درجة العنف بين نمط التراكم الأولى "الاشتراكى" والتجارب الرأسمالية السابقة- أن نتذكر أن الغرب استفاد من ظروف أفضل ساعدت على تخفيف نتائج العنف، أقصد الهجرة على نطاق واسع لأمريكا. فارتفع عدد سكان أمريكا ذوى الأصول الأوروبية حتى يعادل عدد سكان أوروبا نفسها ولم تعرف التجربة السوفيتية مثل هذه الميزة.
أضيف أن النمط السوفيتى للتراكم قد أظهر وجهاً إيجابياً بالمقارنة مع النمط الرأسمالى. فوفر فرصاً للصعود فى الهرم الاجتماعى لملايين من أبناء الطبقات الشعبية، وهو ما لم يحققه النمط الرأسمالى.
أخذ النظام يتطور نحو الاستقرار الاجتماعى انطلاقاً من عصر حكم خروتشوف. فبلغ النظام حداً من التنمية أتاح له رفع مستوى المعيشة بشكل ملحوظ ومتواصل.
لم يتمتع استتباب الأمور بطابع "نهائى" طبعاً. فليس هناك نظام– اشتراكى أو رأسمالى- يستطيع أن يزعم ذلك. فعمل الاستقرار الاجتماعى السوفيتى– النسبى- فى إطار له حدود ويتسم بالتناقض. لا سيما ذلك التناقض الذى صاحب غياب التقدم فى سبيل مقرطة المجتمع.
فكانت هناك احتمالات مفتوحة متباينة تحكم مستقبل النظام.
كان من الممكن أن يحدث تطور تدريجى نحو مزيد من الفعالية الاقتصادية بالانتقال من نمط تراكم توسعى إلى نمط تراكم كثيف من خلال فتح باب للتبادل فى السوق (المصحوب بوضع حدود لعمليات السوق)، ولمزيد من الديموقرطية. بعبارة أخرى كان يحتمل أن يتطور النظام نحو موقع "يسارى وسطى" يحفظ المستقبل.
وكان هناك احتمال آخر يمكن حدوثه هو تحجر النظام وهذا هو ما حدث بالفعل.

رابعاً: فك الارتباط مع الرأسمالية العالمية
لا أقصد بمفهوم فك الارتباط نوعاً من الانعزال والهجرة إلى خارج الكوكب، بل اتخاذ موقف منهجى يتيح قلب العلاقة بين نمط النمو الوطنى وبين نمط النمو السائد عالمياً، إذ إن نجاح استراتيجية رأس المال المعولم السائد يقتضى تكيف الأطراف الضعيفة فى المنظومة العالمية لمطالب القوى المتحكمة على الصعيد العالمى. أى بمعنى آخر تفرض الاحتكارات الرأسمالية الإمبريالية القائدة تكيفاً من جهة واحدة. فُيطلب من الاقتصاد التابع إعادة الهيكلة كى تفيد تنميته عملية استعجال التراكم فى الاقتصاد المركزى القائد. هذا هو برنامج مضمون وهدف "إعادة الهيكلة" للبنك الدولى.
فُيطلب من الكونغو أن يتكيف لما يفيد الولايات المتحدة، ولا يُطلب من الولايات المتحدة إعادة هيكلة نظامها بما يفيد تنمية الكونغو!
على النقيض من ذلك تسعى سياسة فك الارتباط إلى انقلاب هذه العلاقة، أى تحقيق شىء من التكيف المعكوس، تكيف الأقوى للأضعف. أقول "شيئاً من" لأن سياسات الأطراف الضعيفة نسبياً لا تستطيع أن تفرض بشكل كلى ومطلق تحولاً جذرياً وشاملاً فى هيكل الطرف الأقوى. وباللغة الدارجة: تسعى إلى أن يقبل الطرف الأقوى الأمر الواقع، يقبل المنهج الذى يستخدمه الطرف الضعيف من أجل تكريس استقلاله وتحسين وضعه الداخلى ومكانه فى المنظومة العالمية، الأمر الذى يتجلى فى "تنازلات" من الطرف الأقوى.
ليس هناك إذن "فك ارتباط مطلق"، بل فك ارتباط نسبى فقط. علماً أيضاً بأن "الاستقلال الشامل" لا وجود له فى عالم مشّكل من أطراف مرتبطة بعلاقات تبادل تخلق تبعية متبادلة، ولو غير متساوية.
فظل الاتحاد السوفيتى مصدراً للمواد الخام للأسواق العالمية الرأسمالية. وفى هذه الحدود اضطر أن يتكيف هو لمقتضيات تحكم رأس المال الإمبريالى فى هذه الأسواق.

خامساً: بناء قوة سياسية وعسكرية عظمى
نجح الاتحاد السوفيتى فى رفع قواته المسلحة إلى مستوى قوة عظمى. فألحق الجيش الأحمر الهزيمة بالقوات النازية، ثم استطاع بعد الحرب العالمية الثانية أن يُنهى فى بضع سنوات احتكار الولايات المتحدة للأسلحة النووية والصواريخ.
خلق هذا النجاح "ثنائية عسكرية" اتسم بها النظام العالمى حتى سقوط الاتحاد السوفيتى. ولعبت هذه الثنائية العسكرية دوراً إيجابياً فى ساحة السياسة الدولية، فضمنت لدول التخوم الآسيوية، والإفريقية، والعربية المشتركة فى كتلة عدم الانحياز، هامشاً للتحرك المستقل دون أن تخشى عدوانًاعسكرياً من واشنطن. فليس من الغريب إذن أن تكون وشنطن قد استفادت فوراً من سقوط الاتحاد السوفيتى لشن حروب عدوانية ضد دول جنوبية انطلاقاً من عام 1990.
لقد فرض الوجود السوفيتى السياسى فى الساحة الدولية نوعاً من النظام المتعدد القطبية.
هذا ولم تسع السياسة السوفيتية إلى إنجاز أكثر من ذلك، أى حماية استقلالها، فلم ترسم لنفسها هدف "تصدير الثورة الاشتراكية" كما يحلو لوسائل الإعلام الغربية أن تكرر بلا ملل.
ظل النظام السوفيتى نظاماً مستقلاً قاوم المنظومة الرأسمالية العالمية. وذلك سواء اعتبرناه اشتراكى الطابع أم لا.

سمات الرأسمالية فى روسيا بعد السوفيتية
توقف تطور النظام السوفيتى بعد انتصار ثورة 1917 عند مرحلته الأولى، مرحلة "اشتراكية الدولة" التى أسس قواعدها لينين ثم ستالين. ثم تحجر النظام عند هذه النقطة حتى أخذ يميل إلى أن يتحول إلى رأسمالية الدولة فى عصر برجينيف.
ألجأ هنا إلى مفهومين تناولت توضيح مضمونهما فى مقالى المعنون "الوحدة والتعددية فى الحركة نحو الاشتراكية" وأطلقت اسم الـ "رأسمالية دون رأسماليين" على هذا النظام فى وصفى لتحجره قبل السقوط.
روى برجنيف صعود طموحات الطبقة القائدة المستفيدة من النظام ("النومنكلا تورا") إلى أن تحول أعضاؤها إلى رأسماليين أصحاب الملكية على نمط بورجوازية الغرب، ثم اعتمد يلتسين وجورباتشوف على هذه الطبقة من أجل إنجاز "الإصلاحات" المزعومة تحت عنوان جذاب: "إعادة هيكلة النظام وإضفاءه الشفافية".
أثبتت التطورات التى تلت فراغ الشعار الذى اختفى وراءه مشروع إسقاط النظام بحاله، لتحل محله رأسمالية منفلتة لصالح بورجوازية خرجت من صفوف النومنكلاتورا.
هل ارتكب يلتسين وجورباتشوف جريمة "الخيانة"؟
ليست إجابتى بالنفى، إذ إن سقوط الاشتراكية المزعومة (فى واقع الأمر سقوط رأسمالية الدولة) صاحبته بالضرورة ردة فاحشة فى مجال الحفاظ على ما يمكن تسميته "المصالح الوطنية" لشعوب الاتحاد السوفيتى. فانفجر الاتحاد وأصبحت الجمهوريات المكونة له دولاً تابعة تكاد تكون نيوكولونية بالنسبة إلى بعضها مثل دول البلطيق. ودخلت روسيا نفسها فى نفق لم يظهر بعد نور المخرج منه.
اعتمدت خطة الإمبريالية- باشتراك يلتسين وجورباتشوف فى تنفيذها– على تبنى وصفة "العلاج بالصدمة"، التى صممتها رأسمالية الاحتكارات الغربية من أجل تدمير فورى وشامل لمؤسسات الدولة بحيث يصبح المجتمع عاجزاً فى مواجهة الهجوم المنهجى المخطط.
وقد ساهمت قطاعات واسعة من البورجوازية الروسية، ومثيلاتها فى الجمهوريات المستقلة الجديدة، فى تنفيذ البرنامج، بل قبلت أن تتحول إلى بورجوازيات كومبرادورية لمعرفتها أن هذا هو ثمن إثرائها السريع. وترتب على تضافر هذه العوامل إقامة نظام رأسمالى هش الهيكل، يتسم بالسمات التى سنتناول وصفها فيما يلى.

أولاً: تحول روسيا إلى وضعية تخومية فى النظام الرأسمالى العالمى المعاصر:
تميل المنظومة الإنتاجية الروسية إلى أن تنحصر فى قطاعات إنتاج المواد الخامة للتصدير- ومنها النفط والغاز بصفة رئيسية- فلم تقم الحكومة بإصلاح القطاعات الصناعية والزراعية وهى قطاعات لا يهتم بها رأس المال الدولى ولا البورجوازية الكومبرادورية الجديدة المحتكرة للسلطة العليا.
وتعانى هذه القطاعات من شح الاستثمار المخصص لها. بالإضافة إلى إن الحكومة سمحت بتدمير التعليم والقدرات الإبداعية التى كان النظام السوفيتى يحافظ عليها حفاظ العين. كان نمط التعليم السوفيتى- لا سيما التعليم العلمى- يُعتبر من أرقى ما أُنجز عالمياً. وقد تم تدمير هذا الإنجاز بأسلوب منهجى صممه "خبراء" أمريكان.
من المسئول عن الكارثة؟ الطبقة الحاكمة التى فُتحت لها أبواب الإثراء الفورى من خلال نهب الملكية العامة. ولا سيما القسم من هذه الطبقة الذى استولى على الكومبينات السوفيتية العظمى فى استخراج النفط والغاز. فشكل هذا القسم نواة الأوليجاركية الجديدة، على نمط بلاد الجنوب المنتجة لمثل هذه الثروات من أجل التصدير. فأصبحت الدولة الروسية بمثابة دولة ريعية تعتمد ميزانيتها على الريع ولا غير. وخضع الإصلاح الضريبى "لنصائح" البنك الدولى فتم تخفيض نسبة الضرائب المحصلة على أرباح الشركات إلى 17% فقط، فى مقابل ما يتراوح بين 40 و30% فى الدولة الغربية! وكذلك أُلغيت أو تكاد الضرائب على الأرباح الموزعة ونسبتها فى روسيا هى أيضاً 17%، فى مقابل ما يتراوح بين 70 و40% فى الدول الغربية!
ثم تم تفكيك الصناعات التحويلية وبيع أقسام منها بأثمان رمزية لا صلة لها بالقيمة الحقيقية للأصول العينية (نموذج بيع القطاع العام فى مصر مبارك ومرسى!) وذلك لإقامة "منشآت" تعمل من الباطن لصالح الاحتكارات الأجنبية التى تمتص الفائض المنتج فى نشاطها. أى بعبارة أخرى تبنت روسيا أسوأ نمط من أنماط التبعية الجديدة.
والوضع أسوأ فى الجمهوريات الأخرى للاتحاد السوفيتى السابق، فأصبح رأس المال المالى يحكم اوكرانيا كما يحكم مستعمراته الأخرى فى أوروبا الشرقية (بولندا، دول البلطيق، المجر الخ). وتقوم "منظمات غير حكومية" تمولها بسخاء أجهزه الإمبريالية بتنظيم "مظاهرات" تدعو أوروبا لتولى أمور إدارة الدولة.
ويعتمد نظام السلطة على طبقة "وسطى" جديدة نشأت مع التحول الكومبرادورى. تتشكل هذه الطبقة من موظفين يقبضون مرتبات مرتفعة وظيفتهم خدمة الكومبرادور فى إدارة أعمالهم.
تختلف أوضاع روسيا الموصوفة هنا عن الصين التى رفضت "العلاج بالصدمة" وحافظت على استقلال رأسمالية دولتها ولم تسمح بتحويل صناعاتها إلى منشآت تعمل من الباطن لصالح رأسمال الاحتكارات الإمبريالية (يستطيع القارىء أن يرجع هنا إلى ما كتبته فى الدراسة المعنونة "الصعود الناجح: الصين"، المنشورة فى كتابى "ثورة مصر بعد 30 يونيو").
يبدو أن بوتين قد بدأ يدرك مدى التدمير الذى أصاب اقتصاد روسيا ويبدو أنه ينوى اتخاذ مبادرات من أجل إصلاح الأوضاع. سوف نتناول نقاشها فيما بعد.

ثانياً سلطة أوتوقراطية غير مسئولة
يحول نمط الرأسمالية الروسية دون تقدم ديموقراطى، وليس استمرار الممارسة الأتوقراطية تعبيراً عن "بواقى الماضى"، بل تعبيراً عما تقتضيه ممارسة سلطة الأوليجاركية الكومبرادورية الجديدة. وفى هذا الإطار أقام دستور 1993 نظاماً رئاسياً يخفض سلطات الدوما (البرلمان المنتخب) إلى ما يقرب الصفر.
تتجاهل وسائل الإعلام الغربية– عمداً- هذه الحقيقة. فلا تدين النظم التى تتبنى الوصفة الليبرالية بنقص الديموقراطية، وتدينها فقط إذا سارت فى سبيل آخر.
يحل الفرق بين أساليب الأتوقراطية الجديدة وسابقتها السوفيتية فى مجال آخر. فتخدم الأتوقراطية الجديدة مصالح الأوليجاركية الكومبرادورية الجديدة. وانعكست النزاعات بين أطراف هذه الأوليجاركية داخل نظام الحكم. فأصبح كبار موظفى الدولة أطرافاً فى هذه النزاعات من أجل استخلاص فوائد مالية فى مقابل تحيزهم لطرف أو آخر. ويعتبر هذا الوضع أهم مصدر "للفساد". وقد رأينا فى بعض الأحوال عناصر من الأوليجاركية يدعون "الغرب" لإنقاذهم باسم الديموقراطية طبعاً!
اندرجت سياسة بوتين فى مرحلتها الأولى فى هذا الإطار. فاستخدم الرئيس تلك الوسائل ذاتها من أجل وضع أصدقائه من حلقات سان بترسبورج (وهى قاعدته الأصلية فى انطلاقه) فى وظائف قائدة. وسوف نرى فيما بعد إذا كان هناك احتمال أن يعيد بوتين النظر فى هذا المجال، بعد استقراره فى السلطة.
يشارك "الشعب الروسى" فى مسئولية الانهيار. علماً بأنه وجد نفسه فى اضطراب بعد انهيار المؤسسات السوفيتية التى كان قد تعود على التعامل معها. ولكن النظام الجديد هو الذى يحمل المسئولية الكبرى فى نهاية المطاف. فلجأ هذا النظام إلى استخدام العنف لتدمير ما تبقى من مؤسسات العصر السوفيتى حتى ضرب بالمدافع أول برلمان منتخب!
ولم يكن "اليمين" الجديد قادراً على تخطى حدود تكوين جماعات صغيرة ترعد بالضوضاء (وعلقت وسائل الإعلام الغربية على هذه الضوضاء أهمية لا تستحقها!).
ولا يزال هذا اليمين- إلى الآن- عاجزاً عن خلق حزب سياسى بالمعنى الصحيح. كما أنه لم يصبح قادراً على بلورة مشروع بديل للسوفيتية يكون متماسكًا ومقنعًا، يصاحبه خطاب أيديولوجى جاذب.
فظل هذا اليمين أسيراً لبيروقراطية السلطة، ومضطراً إلى الاعتماد على مساندتها لتحقيق أهدافه من نمط شبه رأسمالى فى روسيا، مثل ما أسميته فى ظروف مصر: النمط المنحط لرأسمالية المحاسيب.
ظل الحزب الشيوعى يتمتع بدرجة من الشعبية، الأمر الذى انعكس فى قدرته على جمع نصيب محترم من الأصوات فى الانتخابات الأولى. إلا أنه ظل متجمداً، دون تجاوز حدود الشعارات الدجمائية، الموروثة، وبالتالى ظل عاجزاً عن مواجهة التحدى الجديد. وشجع هذا العجز خشيته وخجله حتى أنه قبل تنازلات- مثل مساندته لدستور 1993- لم تكن الموافقة عليها فى مصلحته.
ثم ظهر على يسار هذا الحزب مجموعات "ماركسية" مجددة ولكن هذه المجموعات هى الأخرى لم تخرج– إلى الآن- من عزلتها فى حلقات "نقاش" دون كسب جماهيرية.

ثالثاً: تفكك نظام "الطائفية"
كان من المحتمل أن تقوم النقابات– فى غياب الحزب الشيوعى- بدور فعال، على الأقل من أجل حماية الإنجازات الاجتماعية المحققة فى ظل نظام الطائفية السوفيتية السابق. وفعلاً استمرت الجماهير تثق فى نقاباتها، على الأقل خلال العقد الأول للنظام الجديد، أى التسعينيات.
ثم ارتكبت النقابات ما يبدو لى خطأ جسيماً. فتصورت إمكانية استمرار نظام الطائفية القديم الذى كانت طرفاً فيه. وقد شجع موقف العديد من كوادر إدارة الاقتصاد السوفيتى السابق دوام هذا التخيل. فوقف هؤلاء الكوادر مع عمال المنشآت المعنية فى مواجهة نهب القطاع العام.
وذهب البعض منهم- مع كوادر نقابات- إلى تصور حل على نمط الاشتراكية الديموقراطية الغربية، أى إقامة مؤسسات ثلاثية الأطراف (أصحاب رأس المال، الدولة، النقابات) تقوم بمفاوضات بينية حتى تصل إلى قرارات جماعية فى مختلف القضايا التى تمس إدارة المنشآت والشئون الاجتماعية (شروط التوظيف والعمل، الأجور، المعاشات الخ). ولعل هؤلاء تجاهلوا إن أيام الأسلوب الاشتراكى الديموقراطى المذكور قد فاتت فى الغرب نفسه.
لم تمنع خشية النقابات وخجلها صعود النضال الطبقى الذى تجلى فى إضرابات متكررة قوية. على أن هذه المبادرات ظلت "تلقائية" فى معظم الأحوال – ونتاج لقرارات صادرة من القاعدة دون موافقة قيادات النقابات- وعاجزة عن دفع النقابات لإصلاح نفسها أو– فى غياب حدوث ذلك- عن إنشاء نقابات بديلة.
أدى تضافر هذه العوامل السلبية إلى ردات متواصلة لوجود النقابات فى الساحة، كما حدث فى الغرب أيضاً، ولنفس الأسباب.

رابعاً: صعود طموحات إقليمية منفلتة
أنتج سقوط النظام السوفيتى ظروفاً ملائمة لانفجار طموحات إقليمية منفلتة. ولئن كانت هذه الطموحات موجودة فى ظل النظام السوفيتى، إلا أن السلطات بذلت المجهود المطلوب بروح من المسئولية، كى لا تنفلت الأمور باللجوء إلى التفاوض (لعله "المساومة") مع القوى المعنية، والعنف إن لزم الأمر.
تبخرت روح المسئولية. وصارت كل فئة تدفع مصالحها الخاصة دون اعتبار للمصالح الأعلى. بل أخذت تكتلات الأوليجاركية تستغل الطموحات الإقليمية عندما وجدتها تفيد مصلحتها.
ليست الحركات الإقليمية فى روسيا "قومية" (أو "دينية") الطابع بالضرورة. فهناك على  سبيل المثال طموحات إقليمية فى أماكن نائية فى سيبريا بالرغم من كون سكانها من الروس. ولكن هناك أيضاً حركات إقليمية ازدهرت على أرضية مطالب قومية، لاسيما فى المناطق الإسلامية (مثل إقليم الشيشان). واستغل العدو الإمبريالى (الولايات المتحدة) المناسبة للتدخل السافر فى شئون روسيا الداخلية. ثم لجأت السلطة المركزية الروسية إلى استخدام العنف فى مواجهة هذه الحركات واستغلت عمليات الإرهاب التى باشرتها بالفعل بعض هذه الحركات لتبرير رد الفعل العسكرى.
هناك إشارات توحى أن بوتين بدأ يدرك خطورة الموقف. ولاسيما أن العديد من محافظى الأقاليم المنتخبين طبقاً للدستور قد أصبحوا أطرافاً فى الحركات الإقليمية. فأصدرت الرئاسة قانوناً يتيح لها حق تعين موظفين (أسمتهم "مديرى الأقاليم") لهم حق الفيتو ضد قرارات المحافظين. مرة أخرى لا يتجاوز هذا الحل حدود ممارسة الأتوقراطية تفاديا البحث عن حلول صحيحة من خلال التفاوض.

خامساً : غياب روسيا (مؤقتاً؟) فى الساحة الدولية
دعت القوى الإمبريالية العظمى الممثلة فى "مجموعة السبعة" روسيا للاشتراك فى مجالسها (فأصبح المجموعة مكونة من ثمانية) وذلك بعد سقوط النظام السوفيتى بقليل.
ولا تزال هذه المشاركة رمزية، دون أن يكون لها أى تأثير فى مواقف السبعة. فبينما تم حل اتفاقية وارسو العسكرية لا يزال الناتو قائماً، بل صارت ممارساته أكثر استفزازاً وعجرفة. وكذلك قُبِل انضمام روسيا لمجموعة السبعة على أساس تبنيها مبادىء الليبرالية الاقتصادية دون تحفظ.
إلا أن تطور الأمور جعل قيادات روسيا تدرك خطورة الحال. إذ إن حضور روسيا فى مجموعة الثمانية (والمفروض أن روسيا أصبحت "صديقاً") لم يمنع الولايات المتحدة وأوروبا خلفها من التدخل السافر فى شئون روسيا الداخلية، والقيام بمؤامرات عدوانية لاسيما فى جورجيا ودول وسط آسيا وأوكرانيا.
يبدو أن بوتين قد أدرك أن الغرب لا يزال عدواً لروسيا الأمر الذى يفسر مواقفه الجريئة التى اتخذها فى مواجهة الأزمات الدولية الأخيرة (سوريا، إيران، أوكرانيا). ولذلك أعتقد أن زمن غياب روسيا من الساحة الدولية قد انتهى.
أتذكر حوارًا جرى بينى وبين بعض المسئولين الروس (اليمينيين) فى أعقاب سقوط النظام السوفيتى. فقال هؤلاء لى (يكاد يكون بالحرف): "خسرنا الحرب، ولكن سوف نكسب السلم، كما أن ألمانيا التى خسرت الحرب لم يمنع هذا صعودها الاقتصادى، فسوف نستفيد نحن أيضاً من تبنى مبادئ الليبرالية الرأسمالية بعد أن تخلصنا من الأوهام الاشتراكية الخيالية".
وكانت إجابتى كالآتى: "أنتم لا تدركون اختلاف الظروف. لقد ساعدت الولايات المتحدة ألمانيا على نهضتها بعد الهزيمة، لأن وشنطن كانت بحاجة لأن تكون ألمانيا قوية فى مواجهة العدو الحقيقى القائم- الاتحاد السوفيتى. ويختلف الأمر اليوم فليس هناك وجود لأى عدو يذكر أمام الولايات المتحدة. وبالتالى لا تريد وشنطن مساندة صعود روسيا حتى لا تصبح مرة ثانية قوة عظمى، فالأفضل بالنسبة إليها هو مواصلة تدمير بلادكم".

سادساً: التدهور الأيديولوجى
قامت الأيديولوجيا السوفيتية الرسمية على تكرار بلا ملل لخطاب "الاشتراكية" إذ كان المصدر الوحيد لشرعية النظام قائماً على ذكر ثورة 1917.
طبعاً كانت الفجوة بين الكلام (حول الاشتراكية) والواقع عميقة. ولكن ليس هذا الوضع شاذا يخص الاتحاد السوفيتى فقط.
فلا تقل عمقاً الفجوة التى تفصل الخطاب الأيديولوجى السائد فى الغرب (ومفاده أن الليبرالية الاقتصادية مرادفة لتقدم الديموقراطية واستتباب السلم عالمياً) عن الواقع. فوظيفة الخطاب الأيديولوجى المبتذل هى بالتحديد إخفاء الحقيقة.     
لجأ الخطاب السوفيتى أيضاً إلى تعبئة الشعور "بالوطنية"- ليس بمعنى الشوفينية بالضرورة. فدعا إلى تكريس وحدة الشعب "وراء زعمائه" فى مواجهة العدو الإمبريالى الرأسمالى. ووجد هذا الخطاب صدى" ملحوظاً لأنه قام على حقائق- العداء للإمبريالية. علماً أيضاً بأن هذا الخطاب قد ساعد الحكام على إخفاء نواقصهم فى إنجاز التقدم الموعود.
وليست هذه الممارسة خاصة بالتجربة السوفيتية. إذ يلجأ زعماء دول الجنوب إلى خطاب وطنى مماثل حول معاداة الإمبريالية لمشروعهم "المستقل".
واليوم، فى ظروف صعود عداء الغرب لروسيا، يقوم الشعور بالوطنية الروسية بدور إيجابى. إلا أن مثل هذا الخطاب ما زال يؤثر فى الشعب الروسى المشغول بمواجهة النتائج الكارثية للسياسة الليبرالية التى ينفذها النظام.
فحل خطاب شوفينى بحت محل تعبئة الوطنية الصحيحة. ويغذى الخطاب الشوفينى كراهية الجار ويحمله مسئولية (وهمية طبعاً) المصاعب التى يعانى منها الشعب الروسى. فأصبح المهاجر القوقازى أو الآسيوى يمثل هذا العدو. مرة أخرى ليست هذه الظاهرة خاصة بروسيا. فأصبحت أداة خداع الشعوب فى الغرب "المتقدم" (الحملات ضد المهاجرين) وفى الجنوب "المتخلف" (الحروب الأهلية "الدينية" أو "العراقية" فى الوطن العربى وفى أفريقيا المعاصرة).

خروج روسيا من النفق؟
توحى قراءة الصفحات السابقة بأن روسيا تعيش عصر أفولها لدرجة بائسة، وأن مبادرات بوتين لقلب الاتجاه لم تأت بثمار تذكر إلى الآن. وهناك ظواهر اجتماعية توحى بأن الأفول لا يتعلق فقط بتدهور المنظومة الإنتاجية بل يلمس أيضاً المجال الديموغرافى- تعداد سكان روسيا فى التنازل- الأمر الذى يدل على أن فقدان الأمل فى المستقبل أخذ يتفشى فى المجتمع.
ويستدريج   بعض شخصيات اليسار الجذرى الروسى بأن الأفول المذكور مؤقت. ويقوم تفاؤلهم على ملاحظة غياب شرعية نظام السلطة الراهن فى أعين الشعب الروسى، وتشبيه الظروف الراهنة بما كانت عليه روسيا قبل انفجار ثورة 1917. فالمنتظر فى نظر هؤلاء إنما هو انفجار موجة متكررة لحركة الثورة الاشتراكية، وليس أقل.
أعتقد أن كلتا وجهتى النظر تفتقران للحجة. فمن جانب لم ينجز النظام الرأسمالى الليبرالى الحاكم أهدافه المعلنة، أى درجة من الاستقرار الاقتصادى والسياسى والاجتماعى تضمن استمراره. وبالتالى تظل الأبواب مفتوحة على تغيرات تمس جوهر الأمور. والمقولة صحيحة بالنسبة إلى روسيا كما هى صحيحة بالنسبة إلى أى منطقة أخرى من الكوكب، بما فيها الدول المركزية القائدة، وبالأولى دول الجنوب الصاعدة وغيرها.
ومن الجانب الآخر لم تظهر بعد- لا فى روسيا ولا فى غيرها من أقاليم العالم- قوة استطاعت أن تقيم الجبهة الواسعة المطلوبة لانقلاب اتجاه التطور العام.
أقول، انطلاقاً من ملاحظتى المذكورة، إن السؤال الحقيقى المطروح هو الآتى: ما هى الشروط التى تتيح صعود موجة ثانية للحركة نحو الاشتراكية؟ علماً بأن هذه الموجة المطلوبة لا يمكن أن تكون تكراراً للموجة الأولى التى حركت الشعوب خلال معظم القرن العشرين. ثم بعد ذلك يمكننا أن نطرح نفس السؤال بصورة ملموسة وخاصة ظروف روسيا الراهنة: ما هى الخطوات الأولى المطلوبة والممكن تحقيقها والتى تدفع الحركة إلى الأمام فى ظروف روسيا؟
تناولت بشىء من التفصيل الوجه الأول– العام- للقضية فى مقالى المعنون "الوحدة والتعددية فى الحركة نحو الاشتراكية". فأرجو من القارىء المهتم بالموضوع أن يرجع إليه. وقد تمركزت ملاحظاتى فى القضية حول بيان الجديد الذى يمنع اللجوء إلى الاستراتيجيات التى أتت بثمارها خلال الموجة الأولى (القرن العشرين) والتى لم تعد فعالة فى ظروف القرن الواحد والعشرين.
كما انطلقت من نظرة مجددة لقضية "بناء الاشتراكية"، قائمة على اعتبار أن السير نحو الاشتراكية يتجسم فى مسيرة تاريخية تمتد على عقود من الأعوام، بينما قامت نظرة القرن العشرين على تخيل انتقال سريع للاشتراكية. ثم لفتت النظر إلى تحول هام لطرح القضية نظرياً وعملياً، يمس إشكالية تعددية الأطراف المشتركة فى الحركة نحو الاشتراكية. ويختلف هذا الطرح هو الآخر عن أطروحات ماركسيات القرن العشرين. فرأت هذه الأخيرة أن هناك طبقة واحدة ووحيدة عليها أن تقود وتنجز التحول الثورى إلى الاشتراكية هى البروليتاريا. كما أن بعض فروع الماركسية التاريخية رأت أنه– فى ظروف مجتمعات تخوم المنظومة الرأسمالية المعولمة- يمكن أن تقوم البورجوازية الوطنية (أو الدولة الوطنية) بتحقيق أهداف مرحلية أولى تنخرط فى التطلع نحو الاشتراكية.
وترسى خلاصة التحليل الذى قدمته فى القضية فى طرح مقولة "المشروع المستقل" ("الوطنى المستقل") بصفته الخطوة الأولى على الطريق الطويل للاستمرارية. وأقصد بـ"الاشتراكية" مرحلة أعلى فى حضارة الإنسانية تقوم على مبدأ لحم النسيج المجتمعى على أساس سيادة الديموقراطية، ويحل محل لحمه على أساس سيادة السوق.
ويتجلى مضمون "المشروع المستقل" المطلوب والممكن فى إقامة "رأسمالية دولة مستقلة" ذات التوجه الاجتماعى الشعبى بصفتها الخطوة التى تفتح الباب لتطويرها إلى "اشتراكية دولة" ثم بالتدريج إلى تقدم الأخيرة نحو الاشتراكية.
كيف يمكن ترجمة هذه الخطوط العامة إلى برنامج عمل ملموس فى ظروف روسيا اليوم؟
لقد ناقشت أطروحاتى فى هذا المجال فى موسكو عام 2013 بشىء من التفصيل مع عدد من الرفاق الروس. ودون أن أجرؤ على القول بأننا "اتفقنا بالضرورة وبالتفصيل" أقول إنه قد بدت لى موافقة شملت النقاط الأساسية الآتية:
1- الخروج من سيادة انفراد نمط الملكية الخاصة فى إدارة الاقتصاد وإحلال سيادة "رأسمالية دولة مستقلة" محله.
يقتضى تنفيذ المشروع البديل المذكور العودة إلى تأميم أهم قطاعات الإنتاج الروسى التى يملكها حالياً أعضاء الأوليجاركية بصفتهم أصحاب ملكية خاصة. وتشمل هذه القطاعات النفط والغاز بصفة خاصة، وأيضاً قطاعات صناعية هامة مختلفة. وذلك دون إلغاء مبدأ الملكية الخاصة بشكل عام، بمعنى احترام سيادة هذه الملكية فى أنشطة إنتاجية متعددة. بكلمة أخرى بناء "اقتصاد مختلط".
2- الخروج من سيادة تحكم السوق فى إدارة المنشآت تحكماً مطلقاً، وتعويضه بالعمل بمبدأ التفاوض بين ثلاثة أطراف: أصحاب القرار (سواء كانوا موظفين يديرون القطاع العام أم أصحاب رؤوس الأموال الخاصة)، العمال المستخدمون فى القطاع المعنى، الدولة (أو السلطات المحلية).
ويقتضى تنفيذ المشروع إبداع الإطارات المؤسساتية المناسبة على جميع الأصعدة من مستوى المنشآة إلى مستوى القطاع والإقليم، ثم إلى مستوى الوطن والدولة. وتمثل هذه الخطوة عاملاً فاعلاً ومتحكماً فى دفع رأسمالية الدولة لتحويلها بالتدريج إلى اشتراكية الدولة.
3- الانعتاق من سيادة مبدأ انسحاب الدولة من مجالات الخدمات العامة ونقل مسئولية إدارتها إلى رأسمال المال الخاص، وتكريس قيام الدولة بإدارة الخدمات المذكورة (التعليم، الصحة، الإسكان، الضمان الاجتماعى... الخ). ولا سيما بالنسبة إلى روسيا العودة إلى النظم التى أعطت للاتحاد السوفيتى سبقاً وتفوقاً على صعيد عالمى (لا سيما فى مجالات التعليم).
وتفترض العودة إلى قيام الدولة بدورها القائد فى هذه المجالات إصلاحاً جذرياً فى النظام الضريبى بحيث توفر الحصيلة الضريبية الموارد المطلوبة بالإضافة إلى خروج الدولة من التبعية الريعية فى تمويل أنشطتها.
أقول إن النظام الراهن- القائم على تحديد نسبة خفيفة (17%) للضرائب وتعميم هذه النسبة (أى النظام المسمى بالإنجليزية flat tax الضريبة الموحدة الخفيفة)- هو أسوأ نظام ضريبى يمكن أن يكون، أى على مستوى العالم! وطبعاً نصح البنك الدولى العمل بدعوى أنه يجعل روسيا مكاناً جذاباً للاستثمار الأجنى!
وبالفعل هو نظام جذاب، يحول الصناعة الروسية إلى منشآت تعمل من الباطن وتتيح امتصاص أرباحها لصالح رأس المال الإمبريالى. ولكنه نظام مدمر يسبب نمط تنمية رثة ولا غير.
4- اتخاذ إجراءات تدفع الديموقراطية إلى الأمام، ولا تنحصر الوصفة هنا على إجراء انتخابات صحيحة فقط. بل يتوج قبل ذلك بخلق مناخ ديموقراطى فى المجتمع. الأمر الذى يفترض سن قوانين تتيح حرية تنظيم الأحزاب والنقابات والمؤسسات الأهلية، بل تشجيع ازدهارها بتوفير دعم لها إن لزم الأمر.. الخ.
تمثل هذه الإجراءات الوسيلة الوحيدة التى تفتح مجالاً لتقدم مقرطة المجتمع السياسى. وليست هذه مشكلة خاصة بروسيا. فلا يختلف الأمر عالمياً. فقد تسببت عقود من سيادة رأسمالية الدولة فى روسيا وفى بلدان أخرى، وعقود من سيادة رأسمالية "الموافقة التامة" فى الغرب ثم عقدين أو ثلاثة من سيادة الرأسمالية الليبرالية المنفلتة، تسبب ذلك التاريخ فى تنويم الوعى السياسى وطمس الثقافة السياسية على صعيد عالمى، فى البلدان المتقدمة والمتخلفة على قدم المساواة.
فلا ينفع إجراء "انتخابات" فورية فى هذه الظروف، بل يحتاج الأمر إصلاح الوضع قبل ذلك لخلق مناخ وممارسات ديموقراطية حقيقية حتى يرتفع مستوى الوعى المسيس إلى المستوى المطلوب. ويتطلب تقدم الديموقراطية مزيداً من الصبر! وينبغى وضع قضية الدستور الروسى فى هذا الإطار.
قطعاً ليس دستور روسيا لعام 1993 دستوراً ديموقراطياً، شأنه فى ذلك شأن معظم الدساتير القائمة على مبدأ تفوق سلطة الرئيس (ولو المنتخب!) على السلطات الأخرى (البرلمان). و تتلخص مثل هذه الدساتير فى أشكالها المتطرفة (وهو وضع الدستور الروسى المعنى وكذلك وضع جميع الدساتير المصرية الناصرية وبعد الناصرية ومنها مشروع الدستور الأخير) فى بند واحد مفاده الحقيقى يقٌرأ "للرئيس السلطات"!
بيد أن حل المشكلة لن يأتى من خلال انتخاب فورى لجمعية وطنية مسئولة تسن مشروع دستور جديد لا فى روسيا، ولا فى مصر (وقد أثبتت التجربة التونسية هشاشة الأوهام المعلقة على هذا الأسلوب، بل يستحسن تأجيل اتخاذ هذا الإجراء الضرورى فى نهاية المطاف) حتى تخلق ممارسة ديموقراطية فعلية على أرضية الواقع الشعبى الملموس وخلال بضع سنوات إنعاش الثقافة المسيسة.
5- مثلت البنية السوفيتية المتعددة القوميات انجازاً تقدمياً ليس فقط بالنسبة إلى الشعوب المعنية (الروس وغيرهم) بل أيضاً على صعيد عالمى. فقدم نموذجاً للمطلوب– مشاركة قوميات مختلفة فى بناء مستقبل مشترك- وذلك مهما كانت نواقصها. علماً بأن هذه النواقص لم تحل فى مجال التعامل مع قضية القومية- إذ إن النظام السوفيتى قد احترم بالفعل التعددية فى هذا المجال- بل حلت فى مجالات أخرى تمس إدارة الاقتصاد والسياسى.
وبالتالى أعتبر تفكيك الاتحاد ظاهرة سلبية تاريخياً، جزءًا لا يتجزأ من الكارثة. أقول أكثر من ذلك: "إن القوى (الرجعية) التى طالبت بالاستقلال المزعوم لم تتمتع فى لحظة سقوط الاتحاد بمساندة شعبية واسعة كما قيل، خاصة كما قال به الإعلام الغربى الكاذب والمخادع وفُرض الاستقلال غير المطلوب على جمهوريات آسيا الوسطى. وقد سعت الأوليجاركية الروسية من وراء هذا القرار منها إلى التخلص من "عبء المعونة" المصممة من الداخل فى هيكل النظام الاقتصادى السوفيتى كما ذكرت. وفى بعض الجمهوريات الأخرى- أوكرانيا، الدول القوقازية- طرحت قطاعات من الأوليجاركية المحلية  ولا الشعوب المعنية هذا المطلب ومولت أجهزة الإمبريالية بسخاء –ولا تزال فى أوكرانيا حالياً- المؤامرة كما أن الإعلام الغربى ضخم صور "الانتفاضات" من أجل الاستقلال تضخماً فاحشاًَ.
على أنه– بعد الحصول على "الاستقلال"- ازدهرت أوهام فى صفوف الجماهير تعلق آمالاً على "معونة" غربية تحل محل الدعم السوفيتى السابق بل تتفوق عليه. وطبعاً لم يحدث ذلك، حدث العكس تماماً: دفع مشروعات الإمبريالية لنهب ثروات الجمهوريات المعنية.
لعل الظروف بدأت تتغير من هذه الوجهة ويلاحظ عودة "الحنين" لأيام الاتحاد، حتى فى دول البلطيق.
آن الأوان إذن لفتح مجال لإعادة بناء نوع من التقارب، وربما أكثر، بين الجمهوريات الجديدة وروسيا، وفتح مفاوضات من أجله ويفترض دفع استراتيجيا فعالة فى هذا المجال.

أولاً : تجنب تصور العودة إلى إقامة سلطة مركزية (على صعيد الاتحاد المجدد أو التحالف المقيد باتفاقية دولية بين الأطراف) على نمط الاتحاد السوفيتى السابق. الأمر الذى يتطلب من الطرف الروسى أن يدرك سلامة مخاوف الشعوب الأخرى بسبب غياب التوازن بينهم. فلا تخص هذه المخاوف روسيا فقط، إذ نجد تحفظات متماسكة فى المفاوضات حول التعاون بين البرازيل– الدولة القارية- وبوليفيا.
ثانياً : تجنب منطق "السوق المشتركة" فى بناء العلاقات الجديدة بين روسيا والجمهوريات المعنية، إذ تمثل السوق المشتركة وسيلة تنتج وتعيد إنتاج التفاوت بين أطرافها إذا أقيمت فى الأصل بين أطراف غير متساوية.
تضرب التجربة الأوروبية المثل لما يجب تفاديه. فيزعم الإعلام الأوروبى أن الاتحاد الأوروى، أقيم من أجل تخطى تواضع قدرات الدول الصغيرة أو المتوسطة الأوروبية فى مواجهة ضخامة حجم الولايات المتحدة. وبالتالى يقدم صورة قيام النية الأوروبية من أجل تكريس استقلالها الجماعى. واقتنع الرأى الأوروبى، بل الرأى السائد أيضاً فى روسيا وفى العالم بحقيقة هذا الادعاء. بيد أن الواقع يثبت عكسه تماماً. لم تتح الوحدة الأوروبية المنية على مبدأ السوق المشتركة الموحدة فرصاً للبلدان الأوروبية الأقل نمواً (خاصة فى أوروبا الشرقية سابقاً) لاستعجال لحاقها بالدول الأوروبية الغربية. بل على عكس ذلك فتح أبواب أوروبا الشرقية للنهب لصالح احتكارات الغرب– لا سيما الألمانية. فأصبحت العلاقة بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية غير متوازنة، شأنها شأن العلاقات بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. أقول إن الوحدة الأوروبية أقيمت من أجل تحقيق هذا الهدف بالتحديد، علماً بأن المشروع نفسه لم يدخل فى أى شكل من أشكال المنافسة مع الولايات المتحدة كما يزعم الإعلام الأوروبى، بل كرس تبعية أوروبا السياسية والعسكرية التى تتجلى فى قيادة أمريكية للناتو وللسياسة الخارجية لدول الثلاثية (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان).
لقد أدركت شعوب أمريكا اللاتينية ذلك تماماً، ولهذا السبب رفضت مشروع بناء سوق قارية أمريكية الذى طرحته وشنطن. وهو مشروع مماثل للمشروع الأوروبى! ولكن للأسف يبدو أن الرأى العام فى أوروبا الشرقية وفى روسيا لم يدرك ذلك- إلى الآن.
وبالتالى ينبغى تصور قيام البديل بالنسبة إلى العلاقات بين روسيا والجمهوريات المعنية على قاعدة أخرى: بناء تكامل مدروس وموازٍ نتاج تفاوض بين الدول المعنية بحيث يحفظ استقلال رأسمالية الدولة الخاصة لكل أطراف التحالف. ويضرب مشروع ألبا فى أمريكا الجنوبية مثالاً للنمط المطلوب، خارج سيادة علاقات السوق.
6- تكريس استقلالية سياسة روسيا فى الساحة الدولية ودعم قواتها العسكرية. ففى مواجهة مشروع عسكرة العولمة وبسط السيطرة الأمريكية العسكرية على الكوكب، ليس هناك بديل لتكريس مبادىء احترام السيادة الوطنية فى المجالات الدولية ودعمها بالقوة العسكرية على قدر التحدى الإمبريالى.
وبعد هذا العرض المفصل لما يبدو لى مكونات البديل بالنسبة إلى روسيا علينا أن ننظر فيما إذا كان يتواجد فى الكيان المجتمعى الروسى قوى تدرك مغزى التحدى وتدفع خياراتها السياسية فى سبيل انجاز الأهداف المحددة.
كانت الحكومة التى رأسها بريماكوف لمدة قصيرة خلال التسعينيات قد شرعت فى سبيل الإصلاح واتخذت بعض المبادرات– ولو المتواضعة- فى الاتجاه المطلوب. ولكن الأوليجاركية استطاعت أن تتخلص من بريماكوف.
ثم بعد مضى سنوات ظهرت مرة أخرى إشارات تدل على أن بعض أقسام من الطبقة السياسية الحاكمة (ولا بد من التمييز بين هذه الطبقة المسئولة عن إدارة السياسة وبين الطبقة الحاكمة فى المجال الاقتصادى، بالرغم من التحالف الذى يربطهما مع بعض) أصبحت تدرك مدى الكارثة. ويبدو أن بوتين ينتمى إلى هذه المجموعة واستغل الفرصة للصعود فى سلم السلطة. فتوجهت قيادة بوتين توجهاً جديداً فى ثلاثة مجالات هى:

أولاً: السياسة الخارجية. فقد أخذ بوتين درساً من موافقته السابقة على تدخل الإمبريالية فى ليبيا (بامتناعه عن استخدام حق الفيتو ضد هذا التدخل فى مجلس الأمن). والتالى معروف وواضح. وأدرك أن الإمبريالية لم تزل تمثل الخطر الرئيسى على صعيد عالمى. فلم يكرر الخطأ عندما انفجرت أزمة سوريا. هكذا عادت روسيا تحتل مكانة دولة عظمى فى الساحة الدولية.

ثانياً: فى مجال إعادة بناء تحالف مع الجمهوريات السوفيتية سابقاً، قاوم بوتين مشروعات الإمبريالية فى الاستيلاء على هذه الجمهوريات، لا سيما فى جورجيا وأوكرانيا.
الأمر الذى أدى إلى إعلان ما يكاد حرباً إعلامياً غربياً ضد "الديكتاتورية" وتدين "القيصر الجديد" وضد الطموحات الإمبريالية الروسية إزاء الجمهوريات المعنية الخ..

ثالثاً: فى مجال إعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية الروسية. شن بوتين معارك ضد بعض عناصر الأوليجاركية- وليس ضد الأوليجاركية بجمعها بصفتها طبقة حاكمة اقتصادياً.
والأسئلة التى تطرح نفسها الآن هو الآتى:
هل ينوى بوتين فعلاً قلب ميزان القوة وإعادة بناء نوع من رأسمالية دولة مستقلة؟
هل لديه استراتيجية (ولو "سرية") لتحقيق هذا الهدف؟
ما هى شروط نجاحه إذا كان هذا هو هدفه الحقيقى؟ ما هى القوى الاجتماعية فى داخل روسيا التى يمكن أن يعتمد عليها فى مشروعه؟
من هم الأعداء الحقيقيون والحلفاء المحتملون فى الساحة الدولية؟
تصعب الإجابة على هذه الأسئلة على الأقل بالنسبة لى شخصياً. لعل بعض الرفاق فى روسيا الذين يدركون مدى التحدى والذين يعلمون كيف تتحرك القوى الاجتماعية فى الساحة الروسية سوف يقدمون إجابات أفضل.
أقول بهذا الصدد –ومن حيث المبدأ- إن نجاح مشروع إعادة بناء رأسمالية دولة مستقلة يفترض كسب مساندة "الشعب" بالمعنى الواسع للكلمة. أقول إن هذا المبدأ لا يحكم فقط مستقبل روسيا، فهو مبدأ يحكم أيضاً نجاح مثل هذا المشروع فى أى بلد آخر من الكوكب المعاصر.
لن أكرر هنا ما سبق أن كتبته بهذا الصدد حول ضرورة إعطاء مشروع رأسمالية الدولة طابعا "اجتماعيا" تقدميًا (ولا أقول طابعه "اشتراكى").
الأمر الذى يتطلب بدوره إجراء إصلاحات تتيح المشاركة للأغلبية الكبرى من الطبقات الشعبية فى فوائد التنمية الاقتصادية، فلن يقتنع الشعب بمساندة "مشروع وطنى بحت" يتجاهل مشاكله تجاهلاً شاملاً
وتأتى بعد ذلك إشكالية التحالفات الخارجية التى يمكن من خلالها دفع مشروع التنمية الوطنية المستقلة.
سادت- ولا تزال تسود- أوهام خطيرة بهذا الصدد، فى روسيا وفى العالم. فيعلق البعض آمالاً على "أوروبا"- كما هى أى الاتحاد الأوروبى- وما زال العديد من "رجال السياسة" -لاسيما فى حلقات "الخبراء" فى الشئون الدولية- مقتنعين بجدية كلام أوروبا عن نفسها: أن المشروع الأوروبى يسعى إلى نشر الرفاهية والديموقراطية وضمان السلام، فيتجاهلون الواقع: اصطفاف أوروبا وراء مشروع بسط الولايات المتحدة سيطرتها العسكرية على الكوكب. ويستمرون فى تغذية الآمال بأن يكون هذا الاصطفاف مؤقتا.
ولقد قامت خيارات أوروبا الشرقية- عندما قررت الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى- على أساس هذه التخيلات التى يكذبها واقع الأمور.
وكذلك قامت دعوة جورباتشوف إلى بناء "البيت الأوربى المشترك" على نفس الأوهام. وكانت الحجج المقدمة بهذا الصدد بسيطة. أولاً: تشارك روسيا وأوروبا فى "الثقافة" "والإرث التاريخى" ("أوروبا المسيحية"؟). علماً بأن الكلام عن "أمة أوروبية" (لا وجود لها فى الواقع) لا يختلف كثيراً عن الكلام الموازى عن "الأمة الإسلامية" (التى هى الأخرى لا وجود لها).
ثانياً: إن روسيا غنية بالثروات الطبيعية التى تحتاج أوروبا إليها –لا سيما البترول والغاز- وتمثل أرضية للتفاهم فى صالح الطرفين.
لقد تناسى هذا الخطاب البسيط لدرجة السذاجة أن "أوروبا" تشكيلة اجتماعية تقودها طبقات اجتماعية حاكمة. تمثل مصالح رأسمال الاحتكارات الإمبريالية. وفيما يتعلق بالبترول والغاز بالتحديد فقد طورت أوروبا فى الحقيقة استراتيجيات تسعى إلى الاستغناء عن استيرادها من روسيا. ومنها مشروعات تحويل أنابيب آسيا الوسطى والقوقاز دون مرورها عبر روسيا.
لئن اقتنع غرباتشوف بما قال، إلا أن بوتين يبدو واعياً بمغزى التحدى وحقيقة طابع أوروبا الإمبريالية حليفة الولايات المتحدة.
بيد أن هذا "الوعى" الواضح" لا يكفى فى حد ذاته طالما لم تُحقق شروط دفع مشروع رأسمالية دولة مستقلة التى ذكرناها فيما سبق.
فطالما لم يتحقق جمع هذه الشروط ستظل تحركات بوتين معارضة ولكن هشة. ويدرك الغرب ضعف مبادرات بوتين فلا يقلق منها. ويقول بهذا الصدد "الخبراء" الأوربيون فى شئون روسيا إن تحركات بوتين لن تضع مصالح أوروبا فى خطر. فيظل اقتصاد روسيا فى حالة خراب وتنميته مهددة.
وتميل الطبقة السائدة- الأوليجاركية- إلى الاعتراف بالأمر الواقع- أى اختلال ميزان القوى فى صالح أوروبا وفى غير صالحها- فتحترم ما يقتضيه حتى تضمن استمرار سيطرتها على الحكم وإثرائها. خلاصة القول إن روسيا لن تخرج عن آفاق الدولة الكومبرادورية التابعة.
الكرة الآن فى يدى بوتين: هل هو قادر أن يدرك ذلك؟ هل هو عازم على أن يتخلص من تحكم الأوليجاركية فى شئون روسيا؟ هل هو مستعد أن يدفع ثمن انقلاب الميزان لصالحه من خلال سياسة اقتصادية واجتماعية تنقض السياسة التى استمر يسير فى سبيلها إلى الآن؟
تمثل دول "الجنوب" ولا سيما الدول الصاعدة التى تسعى هى الأخرى إلى إقامة نظم رأسمالية دولة مستقلة، بديلاً بعد تبخر الأوهام حول أوروبا. وسوف يقوى تكريس تحالفها فى السياسة الدولية وفى مواجهة عسكرة العولمة موقف روسيا فى الساحة. وتتواجد أيضاً مجالات للتعاون الاقتصادى يمكن استغلال فرصه. وهناك إشارات تدل على صعود الوعى بهذه الإمكانيات ظهرت فى سياسة روسيا والصين بالأخص فلا بد من تعميق الفكر والعمل فى سبيل إنجاز وعودها اللامعة.