mardi 9 décembre 2014

Toward a front of the South (in arabic)



SAMIR AMIN
نحو جبهة دول الجنوب؟


على ضوء ماكتبته فى المقالات السابقة، اطرح هنا مايبدو لى محور القضية: احتمال تبلور مشروعات وطنية شعبية مستقلة فى عدد من دول الجنوب وروسيا، وشروطه، وبزوغ جبهة موحدة تجمعها فى مواجهة الامبريالية.
1- يسير مخطط العولمة الامبريالية القائم على قدمين.
فمن جهة يسير المشروع على قدم اقتصادية باسم الليبرالية المعولمة المعروفة مكوناتها؛ علما بأن الوصفة يفترض ان تنفذ فورا بنصها على جميع دول الكوكب. ومن جهة اخرى تفعل القدم السياسية فعلها من خلال سياسات دولية منهجية تسعى إلى ضمان خضوع دول الجنوب وروسيا، وبسط الإشراف العسكرى الإمبريالى على الكوكب، أى عسكرة العولمة التى تستهدف تدمير مؤسسات الدولة الوطنية إن لزم الأمر حتى يصبح الشعب المعنى عاجزا فى مواجهة الوصفة الليبرالية الفجة.
ويكمن سر الفعالية الناجحة للمشروع فى وجود هذا التكامل المتين بين الإدارة الاقتصادية والإدارة السياسية والعسكرية. علما بأن هذا الوضع ناتج عن تحول حاسم فى بنية الرأسمالية تجلى فى صعود درجة التمركز فى إدارة رأس المال الاحتكارى (الشركات المتعدية الجنسية) حتى صارت قادرة على إخضاع جميع الأنشطة الإنتاجية – أو يكاد – لتحكمها. فيمثل هذا التحول القاعدة الموضوعية التى أتاحت تنفيذ برنامج الليبرالية الفجة وتكريس المصالح الاجتماعية المستفيدة منها.
كما أنه يمثل الشرط اللازم الذى أدى إلى تبلور تكتل سياسى ثابت سميته " الاستعمار الجماعى" للثلاثية ( الولايات المتحدة، أوروبا، اليابان)
2- وبالنظر الى ماسبق ذكره فلا بد أن يسير المشروع الوطنى المستقل البديل هو الآخر على قدمين.
فمن جهة ينبغى أن تتخذ دول الجنوب ضحايا النظام القائم مبادرات جريئة تفتح الطريق للتنمية المستقلة الصحيحة. والمقصود بناء منظومة إنتاجية شاملة متمركزة على الذات وذات المضمون الاجتماعى التقدمى، تطابق المعايير التى أوضحت مكوناتها فى المقال الأول من هذه السلسلة.
علما بأن مثل هذه المبادرات تناقض مبادىء الليبرالية الفجة. وبالتالى فيجب أن تتخذ الدول المعنية إجراءات ملائمة فى المجال السياسى لحماية نفسها.
والمقصود هنا إنعاش مؤسسات الدولة الوطنية الشعبية من جانب والبحث عن تحالفات دولية تنتج تبلور جبهة موحدة للجنوب وروسيا من الجانب الآخر.
3- أستخلص من عرضى فى المقالات السابقة للأوضاع فى هذه الشؤون أن المبادرات التى اتخذتها الدول الخمس المذكورة ظلت ناقصة، إلى الآن. فقد لاحظت أن الدفع إلى الامام قد تجلى بالفعل فى المجال السياسى دون أن يصاحبه تقدم موازٍ فى المجال الاقتصادى.
وأعتقد أن كشف سبب هذا النقص يتطلب النظر فى طبيعة الطبقة القائدة. ولن يفيد كثيرا الاكتفاء بوصفها بانها "بورجوازية تابعة". فللطبقة السائدة أوجه مختلفة. فهى بورجوازية بمعنى أنها تملك بالفعل أموالا متجسدة فى أصول حقيقية (منشآت صناعية، عقارات، محفظة أسهم وسندات).
علما بأن بورجوازية تخوم المنظومة العالمية (الجنوب وروسيا) قد تمت إعادة هيكلتها وإثراؤها فى ظل سيادة الليبرالية المعولمة، حتى تقبل العمل من الباطن لصالح الاحتكارات الإمبريالية؛ وهو الشرط الذى يتيح تواصل إثرائها. وبالتالى تقف هذه البورجوازية عقبة فى سبيل الدفع نحو المشروع الوطنى المستقل.
ليست البورجوازية بهذا المعنى فئة صغيرة منعزلة عن المجتمع. فهناك جيش من الفئات الوسطى العاملة فى خدمة إدارة مصالحها، تتكون من موظفى التنفيذ ((executives والتكنوقراط وصانعى الخطاب الأيديولوجى الملائم. وتعى هذه الفئات تماما أنها تشارك البورجوازية فى مصالحها، إذ يتيح هذا النمط من التنمية مجالا واسعا لازدهارها. ولعل هذه الفئات الوسطى تطالب بالاشتراك فى الحكم من خلال ممارسة درجة من الديمقراطية الانتخابية دون إضفاء مضمون اجتماعى تقدمى لميولها الديمقراطية، فتقف عقبة فى سبيل إنجاز الإصلاحات الاجتماعية المطلوبة.
ولكن للطبقة القائدة وجه آخر وهو انفرادها بالتحكم فى الأمور السياسية. ومن ثم انتشر مصطلح "الطبقة السياسية" للإشارة إلى هذا الوجة للمشكلة.
قطعاً لا يوجد نظام حكم دون قاعدة اجتماعية يقوم فى خدمتها. وبالتالي يظل صحيحاً بشكل عام القول بأن النظم المعنية تمثل مصالح البورجوازية التابعة. ولكن هذا القول لا يكفى: فالفئة الحاكمة تسعى أيضاً إلى ضمان استمرار استحوازها على زمام الحكم. وقد تنجز ذلك بممارسة أساليب دكتاتورية بحتة. وقد يحدث فى إطار ممارسة ديمقراطية مبتورة إن فرضت مطالب الفئات الوسطى ذلك. وقد تضطر الطبقة الحاكمة أن تقبل تنازلات لصالح الجماهير الشعبية تتعارض مع مصالح البورجوازية التابعة. بيد أن مثل هذا الوضع لن يحدث إلا إذا استمر نضال الطبقات الشعبية فى الصعود. فتتمتع إذن الطبقة السياسية القائدة بهامش من التحرك؛ الأمر الذى يلقى الضوء على المفارقة والنقص المذكورين.
يسود هذا الوضع فى جميع دول الجنوب وروسيا، وإن مثلت الصين استثناءً إلى حد ما.
4- ولقد اتخذت دول البريكس BRICS الخمس المذكورة، إزاء العديد من الأزمات السياسية الدولية والاقليمية الجارية، مواقف جريئة تطعن فى تحكم مبادرات التكتل الامبريالى السياسية والعسكرية. ولقت هذا المواقف أصداءً إيجابية لدى العديد من دول الجنوب الأخرى.
أصبح الجميع، أو كادوا، يعلنون إرادتهم فى إعادة هيكلة العولمة، كى يتحقق تعدد للأقطاب قائم على احترام السيادة الوطنية على خيار شكل التنظيم السياسى والاجتماعى للوطن. حتى أخذ بعض المحللين فى الغرب يقولون إن العالم قد دخل بالفعل فى مسيرة جديدة وأن العولمة متعددة القطبية فى سبيل الإنجاز.
وفى إطار هذا التطلع تكونت مجموعة العشرينG20  بدعوة من مجموعة السبعة G7. واستهدفت هذه المبادرة – فى رأيى- تصفية ما تبقى من عصر باندونج من روح تضامن شعوب القارات الثلاث. فاختير بعض الدول البازغة المزعومة وبُذل المجهود لإقناعها بأن مشاركتها مع الثلاثية فى تعاملها مع دول الجنوب الأخرى هو فى مصلحتها، وأنها تمثل الوسيلة لتسريع عملية لحاقها بالدول المتقدمة. ويلقى هذا الخطاب صدىً لدى الفئات الوسطى خفيفة الوعى السياسى والراضية بالأمر الواقع الذى أتى بثماره بالنسبة إليهم إن لم يكن بالنسبة لشعبها. كما يمكن أيضا أن يروى انتهازية الطبقة السياسية القائدة.
ولكن لم تحقق الدول الامبريالية هدفها، بالرغم من كل ذلك. فتحولت مجموعة العشرين إلى ميدان تعارضت فى اجتماعاته قرارات الثلاثية السياسية والعسكرية من جانب ورؤى جميع دول الجنوب وروسيا (باستثناء السعودية طبعاً) من الجانب الآخر.
لن أقوم بسرد الأمثلة الدالة على أن عددا متزايداً من دول الجنوب قد أدرك تصاعد التضاد بين مصالحها ومصالح الكتلة الإمبريالية.
أضرب هنا ببعض الأمثلة الحديثة. ففى اجتماع مجموعة العشرين فى بترسبورج (روسيا) عام 2013 أدان جميع المشتركين من الجنوب وروسيا (عدا السعودية) مؤامرات الحلف الاطلسى فى روسيا. ثم تكررت هذه الإدانة فى اجتماع دول عدم الانحياز الذى انعقد فى الجزائر من أجل إنعاش روح باندونج. وساندتها دول آسيوية وأمريكية اللاتينية عديدة، بينما لم يجرؤ الآخرون على مقاومة الاقتراح فظلوا صامتين.
هناك مجالات عديدة ظهرت فيها الإرادة المستقلة لبعض دول الجنوب، وهمومها بأن تستعد نفسها فى مواجهة مؤامرات الإمبريالية. ومنها: دعم وجود القوات العسكرية البحرية الصينية فى المحيط الهادى والمحيط الهندى، وتأسس اتحاد دول القارة الامريكية عام 2011 بعد استبعاد الولايات المتحدة وكندا (وهو بمثابة قرار تاريخى لأنه يتصادم مع مبدأ مونرو القائم على سيادة وشنطن على القارة). كما أن تفاقم الصراع بين روسيا والدول الإمبريالية حول مستقبل أوكرانيا يقدم دليلا على انتهاء أوهام موسكو بحسن نيات الدول الغربية.
يمثل التحدى العسكرى حالياً أخطر وجه للقضية. فقد أدرك التكتل الإمبريالى أنه لن يستطيع ضمان استمرار سيادته دون سيطرته العسكرية على الكوكب. وقد أخذ المشروع فى التنفيذ عبر سلسلة من الحروب الاستباقية. فهل حققت الولايات المتحدة انتصاراً ملحوظاً فى هذا المجال أم تعرضت لعواقب متصاعدة أفشلت المشروع؟
"كسبت" واشنطن الحروب المذكورة عسكريًا. ولكنها فشلت فى إقامة نظم محلية تتمتع بدرجة من الشرعية تتيح لها ضمان نوع من الاستقرار. فقد تفككت البلدان المذكورة دون أن تخرج من سيادة الفوضى. وعلى الرغم من هذا الفشل للمشروع لم تغير واشنطن نظرتها العدوانية الحاملة لمزيد من الإجرام يوماً بعد يوم. أعتقد إذن أن إلحاق الهزيمة بخطة السيطرة العسكرية الأمريكية على الكوكب يمثل حالياً هدفاً محورياً لفرض التراجع فى المجالات الأخرى الاقتصادية والسياسية. وآن الأوان للاستعداد لمشروع تجديد روح باندونج، وفتح الطريق نحو تقارب دول الجنوب فى مجالات السياسة الدولية، لا سيما العسكرية. ولعل مجموعة "عدم الانحياز" التى لا يزال لها وجود فى الساحة، ولو رمزياً حالياً، تقوم بمبادرة فى هذا المجال.
5- ليست الأمور فى مجال الإدارة الاقتصادية للعولمة بمثل هذا الوضوح. فيظل خطاب مجموعة الخمس فى هذه الشئون ملتبسا وضبابيا.
        وقد رأينا من المقالات السابقة أن دول الجنوب (عدا الصين الى حد ما) لم تخرج بعد عن إطار تنفيذ مبادىء الليبرالية فى سياساتها الاقتصادية الوطنية. فلن نستغرب إذن أن مجموعة البريكس (BRICS) لم تتخذ مواقف عامة تناقض صراحةً نمط العولمة الليبرالية. بل فى بعض الاحيان ذهبت إلى الاستغاثة بالنظام المتأزم عبر مشاركتها فى تمويل صندوق النقد الدولى لإنقاذ البنوك الغربية الكبرى المفلسة.
ولكن على الجانب الآخر هناك مبادرات تشير إلى إرادة الانعتاق من العولمة المالية. أقول العولمة المالية ولا أقول العولمة بجميع أوجهها (التجارة العالمية على سبيل المثال) لعله لأن الوجه المالى للعولمة القائمة يمثل "كعب أخيل" (الحلقة الضعيفة) فى المنظومة.
وفى هذا الإطار ألفت النظر إلى: (1) قضية كون الدولار لا يزال يمثل العملة الوحيدة، أو يكاد، المقبولة عالمياً؛ وذلك على الرغم من العجز المتصاعد فى ميزان مدفوعات الولايات المتحدة. فما مستقبل الدولار فى هذه الظروف؟ الإفلاس أم استمرار الأوضاع على ماهى عليه؟ (2) القضية الخاصة بالتحويلية الشاملة لليوان الصينى والروبل الروسى والروبية الهندية. وكذلك احتمال الخروج من التحويلية لبعض العملات الأخرى (البرازيل، جنوب أفريقيا ... إلخ).
هناك إجراءات اتخذت بالفعل على المستويات الإقليمية تساند فرضيتى ومنها مبادرات "مجموعة شنجهاى"( الصين وروسيا وبلدان آسيا الوسطى وبلدان جنوب شرق اسيا)، وإنشاء بنك الجنوب فى أمريكا اللاتينية، ومشروع التعاون باسم "ألبا: "ALBA ومشروع خلق عملة مشتركة لبعض دول أمريكا الجنوبية (السوكر) ومشروع بنك البريكس BRICS، بيد أن جميع هذه المبادرات – السليمة من حيث أهدافها- لا تزال متأخرة فى التنفيذ فلم تصل إلى نقطة الإعلاء الصحيح.
ماهو الأمر بالنسبة الى الدول الأخرى غير القارية: هل يمكن تصور مشروع مستقل فى هذه الظروف؟ ما الهوامش التى يمكن استخدامها؟ ما أشكال التعاون الإقليمى والجنوب/ الجنوب القادرة على تيسير التطور المطلوب؟
حذاري! لقد أخذ البنك الدولى يوزع شهادات مجاملة لدول ليست صاعدة، على سبيل المثال: تركيا وماليزيا وتايلاند وكولومبيا التى تقوم صناعاتها بالأساس على العمل من الباطن للشركات العملاقة متعدية الجنسية.
يقال عادة إن الدول التى لا تتمتع بحجم قارى لا تستطيع أن تسير منعزلة فى سبيل المشروع المستقل. وبالتالى فإن الاولوية تقتضى خلق إطار اقليمى مناسب. حذاري مرة أخرى: لن يتحقق تبلور التكتلات الاقليمية المطلوبة نتيجة معجزة أو بفعل سحر الدعوة إليها. فلابد أن تفتح الطريق دولة ما. علماً بأن مصر لها ذلك الوزن الإقليمى الذى يتيح لها اتخاذ المبادرة فى المنطقة. ولكن الدفع فى هذا الاتجاه يقتضى: أولاً تخلص النظام المصرى من تحكم رأسمالية المحاسيب؛ وثانياً تجديد التحالفات الخارجية. فليست الولايات المتحدة والخليج واسرائيل أطرافاً من المحتمل أن تساهم فى نهضة مصر! علينا إذن أن نتحرر من هذا الأسر وأن نبحث عن تحالفات بديلة صحيحة مع دول الجنوب وروسيا. فالصين، على سبيل المثال، قادرة على أن تساند مشروع بناء منظومات صناعية مستقلة وفاعلة فى دول الجنوب التى تنوى السير فى هذا السبيل.
        ملاحظة ختامية. أسمع صوت هؤلاء الذين يزعمون أن القرار بالمشروع المستقل خيالى الطابع وأن دول الجنوب (ومصر منها) فى حاجة إلى اللجوء للأموال الخارجية لتحقيق تنميتها، وأن توفيرها يشترط قبول مبادىء الليبرالية.
بينما يثبت التاريخ الحديث عكس ذلك تماماً. فالدول التى فتحت أبوابها دون قيد أو شرط لم تجذب أموالاً عدا تلك التى تأتى لغزو مواردها الطبيعية أو لغزو مدخرات مواطنيها (ماحدث فى المكسيك وفى الأرجنتين) فتظل هذه الدول غارقة، ثم تأتى الأموال الخارجية "للإغاثة" حتى تضمن بقاء رأسها فوق سطح الماء دون احتمال أفضل.
هذا بخلاف وضع الصين التى تتدفق إليها الأموال للمشاركة فى استثمارات إنتاجية حقيقية. فكون الصين تتقدم فى بناء منظومتها الإنتاجية الشاملة والمستقلة يفتح مجالات لمساهمة الأموال الأجنبية للاستفادة من ثمرات التنمية، كما أنه يسمح للصين بفرض شروطها على مشاركيها.


paper published in AL AHRAM, Cairo 28/10/2014

Do emerging countries offer an alternative to liberal globalization? (paper in arabic)




هل تمثل مجموعة الدول الصاعدة بديلاً للعولمة الفجة؟

د. سمير أمين

(أتناول في هذا المقال حالتي الصين وروسيا. أما المقال الثالث فقد خصصته لحالات الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا)

يحول الإطار الذي تمثله العولمة القائمة دون ظهور هامش يستطيع المشروع الوطنى الشعبى المستقل استغلاله للدفع إلى الأمام. فقد أقيم هذا النمط بالتحديد لمنع ذلك، حتى أصبح "لا بديل له" كما يقال، ويتم تكراره بلا ملل. ويفرض هذا الإطار الانغلاق في نمط "التنمية الرثة" كما سبق وأن وصفتها، أي تنمية قائمة على قاعدة العمل من الباطن لصالح الاحتكارات المعولمة وامتصاصها للفائض المنتج في تخوم المنظومة، والقائمة كذلك على نهب ثرواتنا الطبيعية لصالح استمرار تبذيرها في الغرب.
يقول البعض: المشكلة عالمية، وبالتالي لابد أن يكون حلها عالميًا. أقول إن الجزءالأول من الجملة صحيح، ولكن الجزء الثاني ليس تابعًا منطقيًا له . فقد أثبتت التطورات الحديثة- أقصد السلسلة اللا نهاية من "المؤتمرات الدولية" خلال العقود الأخيرة- أن النظام لن يتغير من خلال قرارات من الأعلى، على أرضية المفاوضات على الصعيد العالمي، في إطار الأمم المتحدة.
فلم يحدث في التاريخ أن تغير النظام الدولي بهذا الأسلوب. وكانت التغيرات في النظام الدولي التي حدثت في الماضي دائمًا نتاج تغيرات سبقتها "من تحت"، أقصد على المستويات الوطنية. ذلك لأن الدولة الوطنية تمثل الفضاء الحقيقي، حيث تنبسط الصراعات الاجتماعية والسياسية فتتبلور البدائل، فالتغير الذي قد يحدث هنا وهناك يحوِّل بدوره ميزان القوى على المستوى العالمي فيفتح مجالًا لتحول النظام العالمي.
وينحصر خط العمل من أجل تحقيق التغير المطلوب وطنيًا في الجملة الآتية: رفض مبدأ التكيف من جانب واحد لما يقتضيه تواصل بسط العولمة بنمطها الراهن، ويحل محله الدفع في تطوير مشروع وطني مستقل، سَمِّه كما تشاء: مشروع وطني، مشروع مستقل، علمًا بأن الاسم المتداول بالإنجليزية هو Sovereign Project.
اذن يدخل المشروع المستقل الوطنى الشعبى فى تناقض مع بسط نمط العولمة القائمة ذات الطابع الامبريالى. وذلك سواء فى مجال الادارة الاقتصادية للعولمة أم مجال ادارتها السياسية.
بيد أن مفهوم المشروع المستقل هو نفسه موضع تساؤلات فيما يتعلق بمضمونه ومغزاه. فأصبحت عمليات التداخل الرأسمالي المعولم (والمقصود أنشطة الشركات المتعدية الجنسية الكبرى) تؤثر في جميع بلدان العالم، وفي جميع قطاعات النشاط. وبالتالي تظل درجة استقلالية القرار الوطني الذي يمكن تصور تنفيذه نسبية ومحدودة. هذا صحيح اليوم كما كان صحيحًا بالأمس. فلم توجد (ولا توجد ولن توجد) دولة "مستقلة" بشكل مطلق بمعنى أن تستطيع تجاهل ما يحدث على الصعيد العالمي.
لذلك ينبغي أن نتناول موضوع "المشروع المستقل" بالانطلاق من البحث والنقاش حول قضايا فرعية تخص مختلف أوجه الحياة الاقتصادية والسياسية. حيث إن الاصطدام بين أهداف العولمة السائدة من جانب وبين المشروع الوطني من الجانب الآخر يحل بالتحديد وبشكل ملموس في المجال المعني.
أبدأ بقضية الثروات الطبيعية. إذ أصبح التوصل إلى هذه الثروات متحكمًا في تواصل عملية التراكم الرأسمالي المعاصر. فهناك دول تحتاج إلى التوصل لثروات خارج أرضها الوطنية، مثل الولايات المتحدة وأوربا والصين. وهناك دول تتسم بأن بنيتها أقيمت لتقدم مثل هذه الثروات "للتصدير". ويشكل الشرق الأوسط، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية كتلة من النظم أقيمت بنيتها من أجل تيسير نهب ثرواتها، ولا غير، وذلك بالتعاون بين الإمبريالية السائدة والبرجوازية والدولة التابعة. فلم تبذل نظم الحكم المحلية مجهودًا يذكر في سبيل إقامة منظومة صناعية مندمجة تسعى إلى أن تصبح متكاملة ومستقلة. بينما التجارب التي أسميتها "وطنية شعبية" بذلت بالفعل مجهودًا في هذه السبيل، سواء كانت الدول المعنية غير غنية من حيث الثروات الطبيعية (مثل مصر وسوريا) أم غنية (مثل العراق في عصر صدام حسين والجزائر والبرازيل).
فالسؤال المطروح بهذا الصدد اليوم هو التالي: هل تستطيع دول الجنوب الغنية بالثروات الطبيعية رسم سياسات جديدة في مجال استغلال هذه الثروات تسعى إلى حفظها للمستقبل (الأمر الذي قد يوحي بخفض مستوى تصديرها لهذه الثروات) إلى جانب تعبئة الأموال التي يوفرها هذا التصدير من أجل التقدم المعجل في بناء منظومتها الصناعية والزراعية الحديثة؟
وهناك سؤال آخر خاص بالعلاقات بين دول الجنوب الغنية بالموارد الطبيعية والصين بصفة خاصة. فهل من الممكن إنماء علاقات تعاون صحيحة في مصلحة الطرفين تكون مختلفة عن العلاقات التي تحكم السوق العالمية للموارد الطبيعية.
أقصد هنا علاقات تسعى إلى1 : - توفير إنتاج وتصدير موارد للصين2 . - وحصول الدول المعنية على مساندة الصين في إقامتها البنيات التحتية المطلوبة وتعجيل تقدمها الصناعي. علمًا بأن "كتلة الدول المانحة" (وقد أسميت هذه الكتلة "نادي النهابين") ترفض بالتحديد استخدام "المعونات" التي تقدمها في التصنيع!
هناك أوجه أخرى مهمة تتعلق ببسط مشروع مستقل فاعل وأقصد بالتحديد مجالات تخص السياسة الاجتماعية. فيواجه التوجه نحو مشروع وطني مؤامرات الإمبريالية لضرب هذا الخيار. فلن تستطيع نظم الحكم المستقلة المعنية مواجهة هذه الخطط دون اعتمادها على وحدة شعبها.
ولن تكسب السلطة هذا الاعتماد بمجرد إعلانها تمسكها "بالاستقلال" بصفته شعارًا بل يقتضي مصاحبة سياسة الاستقلال في المجال الدولي بسياسات اقتصادية واجتماعية تقدمية تخدم مصالح الأغلبية الشعبية.
وأعتقد أن وجود أو غياب مثل هذه السياسات التقدمية اجتماعيًا يمثل المعيار الذي نستطيع على أساسه تبويب تجارب الدول الصاعدة كما يقال.

الصين
هي الدولة الصاعدة الناجحة الصحيحة. وهي وحيدة في حالها. حيث تنفذ السلطة مشروعًا مستقلًا يسعى إلى:
 1- إقامة منظومة صناعية حديثة شاملة ومتكاملة، مستقلة دون أن تكون رافضة المشاركة في الأسواق العالمية (بل يتخذ المشروع مواقف هجومية في مجال تصدير منتجاتها الصناعية)
2- تمفصل المشروع بإنماء الإنتاج الزراعي والغذائي (حتى تحقق الصين الاستقلال الغذائي) على أساس قاعدة صلبة من المزارع العائلية الصغيرة (دون أن يصاحبها حق الملكية الخاصة لهذه المزارع).
فهل يستحق هذا المشروع أن يعتبر "وطنيًا برجوازيًا" أم "وطنيًا شعبيًا"؟ وبالتالي هل هو مرحلة في تطوير اشتراكية الدولة في اتجاه الدفع نحو الاشتراكية؟ أم هو حقبة في سبيل التنمية الرأسمالية؟ تقتضي الإجابة مزيدًا من التحري في الجوانب الاجتماعية التي تصاحب تنفيذ المشروع. وقد توصلت في هذا المجال إلى أن الإجابة لم تحسم حتى الآن. ولكننى لن أسترسل هنا فى مناقشة هذه الإشكالية، ولو انها تحتل مقدمة المسرح فى الجدال الصينى الداخلى. سأركز إذن على بيان موجز للتطور التاريخى الذى أتاح جمع شروط نجاح المشروع المستقل لصعود لا مثيل له فى البلدان الصاعدة الاخرى.
أقول ذلك لأن خطاب البنك الدولى ينسب نجاح الصين مابعد الماوية (والمقيس بمعدل نمو صادرات البلاد لا غير) إلى مزايا السوق والانفتاح على الخارج.
لايفيد هذا الخطاب المبتذل، كالعادة! فقد حققت الصين فى خلال العقود الثلاثة للماوية (1950-1980) نمواً غير عادى يصل إلى ضعف ماحققته الهند أو أى بلد كبير آخر فى العالم الثالث. ورغم ذلك فما تحق فى العقدين الأخيرين من القرن خارق للعادة، ولكنه لم يكن ليتحقق فى غياب الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التى بنيت فى الفترة السابقة.
انطلق تاريخ الصين الحديث من ثورة التيبنج للفلاحين (1855-1865) التى أسقطت سلطة الإمبراطور والإقطاع ووزعت الأراضى بين جميع صغار وفقراء الفلاحين على قدم المساواة. شتان مابين هذه الثورة الشعبية وثورة عرابى على سبيل المثال التى اعتمدت على العمد والشيوخ وأغنياء الفلاحين.
كما أنها ثارت ضد التغلغل الإمبريالى. وفعلت كل ذلك باكراً جداً، فقد بادر الاستعمار بالعدوان عام 1840 (حرب الأفيون) أى عشرة أعوام فقط قبل انفجار الثورة. وقد زرعت ثورة التيبنج بذور استراتيجيا ثورية للطبقات الكادحة متكيفة لظروف تخوم المنظومة الرأسمالية العالمية الجديدة. فأصبحت سلف الثورة المعادية للاستعمار وللاقطاعية، فألهمت فكرة ماو.
وقد يسرت بعض السمات الخاصة للحضارة الصينية نضوجاً باكراً لصحوة هذا القطر القارى. فدخلت الصين فى مرحلة تجاوز أشكال النمط الخراجى باكراً، قبل أوروبا بخمسة قرون. فألغت سيادة دين الدولة(هنا البوذية) لإقامة نوع من الفصل بين الدين والدولة (مبدأ الدولة العلمانية). وحدث ذلك فى القرن العاشر الميلادى (نعم العاشر الميلادى!).
وفيما بعد وصف ماو الثورة المطلوبة بطابعها "المعادى للاستعمار/ المعادى للإقطاعية/ الشعبي الديموقراطي"، ولم يقل "الديموقراطية البورجوازية"، والتمييز المذكور حاسم. فقد انطلق ماو من مقولة مفادها أن "عصر الثورات البورجوازية" قد انتهى نهائياً، وأن الإنسانية دخلت عصر "الثورة الاشتراكية"، وأصبحت بورجوازيات تخوم المنظومة العالمية عاجزة عن أن تقود ثورة؛ فتميل هذه البورجوازيات إلى الاتفاق مع القوى المسيطرة عالمياً – الاستعمار – وحلفائها من الرجعية "الإقطاعية" المحلية. وبالتالى فإن الثورة المطلوبة هى ثورة "شعبية" (لا بورجوازية) الطابع.
لم تسمح ظروف الصين الموضوعية (أى "تخلفها" الموروث من ماضيها وحاضرها) عدا إقامة "اشتراكية الدولة" فى المرحلة الأولى التى تلت انتصار الثورة عام 1950. بيد أن النمط الصينى لاشتراكية الدولة، الذى استلهم النموذج السوفيتى فى أول الأمر، أخذ يبعد عنه فى مجالات هامة، وخاصة فيما يتعلق بقضية الفلاحين.
اعتبر ماو أن حفظ التحالف بين لعمال والفلاحين الذى جعل الانتصار العسكرى ممكناً، وتكريسه بعد هذا الانتصار، يقتضى إدارة للعلاقة بين الحضر والريف تقوم على احترام مبدأ المساواة بين الطرفين. أى بمعنى آخر رفض ماو نظرية "التراكم الاشتراكى الأولى" التى تلقى عبء تحمل نفقات التصنيع على الفلاحين. واعتبر ماو أن ضمان حفظ هذا التحالف بشروطه (مساواة الطرفين) هو بدوره يتيح الدفع إلى الأمام نحو دمقرطة المجتمع. وألقى ماو على الشكل الذى يتيح التقدم فى هذا الاتجاه اسماً هو "الخط الجماهيرى"
أستخلص من قرائتى لهذا التاريخ استنتاجين هامين. أولاً: أن الشعب الصينى انطلق من رؤية نقدية لتاريخة وماضيه، الأمر الذى يحميه من السقوط فى أوهام ماضوية قائمة على خلق صورة مزيفة للماضى لا تمت بصلة بواقع أمرها. فالرؤية الحضارية الصينية توجه أنظارها إلى المستقبل، لا الماضى. ثانياً: تمتعت الماوية بمرونة فى نظرها للواقع. فعندما بلغت مرحلة اشتراكية الدولة حدودها وراحت تتجمد، اتخذت السلطات مبادرات إصلاحية تدريجية وللانفتاح على السوق، بعد أن رفضت رفضاً وصفة البنك الدولى المنحاز "للعلاج بالصدمة". فتجنبت الصين ما قاست منه روسيا وغيرها من الدول، أقصد تفكيك المجتمع والدولة المصاحب لقبول خطة العلاج بالصدمة.
ولكن القصة لاتنتهى عند هذا الحد، فليس التسوية الاقتصادية والاجتماعية المعمول بها حالياً ضماناً لاستقرار المسيرة. كلا. وسوف نفتح فى المقال الثالث من هذه السلسلة نقاشاً حول مستقبل المشروع الوطنى الصينى على ضوء بيان تناقضاته الداخلية الجديدة.

روسيا
عادت روسيا تحتل فى الساحة الدولية مكانة دولة عظمى مستقلة، ودخلت فى صراع علنى مع الولايات المتحدة. هل معنى ذلك أن روسيا أصبحت "دولة صاعدة"؟ ليست الإجابة يسيرة. لعل بوتين يفكر فى إعادة بناء رأسمالية دولة مستقلة لا تخضع لخطط الاحتكارات الغربية. ولكن السياسة الاقتصادية الروسية لم تخرج بعد عن إطار "الليبرالية" التى تسيطر عليها الاحتكارات الخاصة الروسية، على النمط الغربي. ولا تضمن مثل هذه السياسة حصول الحكام على شرعية تدعمها الجماهير الشعبية.
أتذكر حوارًا جرى بينى وبين بعض المسئولين الروس (اليمينيين) فى أعقاب سقوط النظام السوفيتى. فقال هؤلاء لى (يكاد يكون بالحرف): "خسرنا الحرب، ولكن سوف نكسب السلم، كما أن ألمانيا التى خسرت الحرب لم يمنع هذا صعودها الاقتصادى، فسوف نستفيد نحن أيضاً من تبنى مبادئ الليبرالية الرأسمالية بعد أن تخلصنا من الأوهام الاشتراكية الخيالية". وكانت إجابتى كالآتى: "أنتم لا تدركون اختلاف الظروف. لقد ساعدت الولايات المتحدة ألمانيا على نهضتها بعد الهزيمة، لأن وشنطن كانت بحاجة لأن تكون ألمانيا قوية فى مواجهة العدو الحقيقى القائم وقتها- الاتحاد السوفيتى. ويختلف الأمر اليوم فليس هناك وجود لأى عدو يذكر أمام الولايات المتحدة. وبالتالى لا تريد وشنطن مساندة صعود روسيا حتى لا تصبح مرة ثانية قوة عظمى، فالأفضل بالنسبة إليها هو مواصلة تدمير بلادكم".
كان النظام السوفيتى قد حقق إنجازات بارزة. فأقيمت بالتدريج رأسمالية دولة ذات بعد اجتماعى ومستقلة عن مؤثرات الرأسمالية العالمية. واعتمد هذا النظام الاقتصادى والاجتماعى على تبلور "تكتلات" مصلحية تجمع معاً أصحاب القرار والعمال الفاعلين فى قطاع إنتاجى معين. فأصبح كل من هذه التكتلات "مركز قوة" يدخل فى التفاوض (لعل كلمة مساومة تعطى المعنى!) مع مراكز القوة الأخرى من أجل تصميم أهداف الخطة العامة وتوزيع الفوائد المستخرجة منها: وصار الجوسبلان المكان الذى حلت فيه هذه "المفاوضات- المساومات". وصارت النقابات جزءًا من المنظومة بصفتها المؤسسة التى تتناول مسئولية إدارة الشئون الاجتماعية والفوائد المستخرجة منها لصالح العمال (ضمان التوظيف الكامل، مدارس، مستشفيات، سكن، معاشات الخ).
لقد قام هذا المنهج بدور حاسم، فحل محل "الربحية" التى تتحكم فى إعادة تكوين التوسع الرأسمالى. بل أكثر من ذلك أقيم النظام الاقتصادى السوفيتى على قاعدة إعادة توزيع فوائد التنمية المشتركة لصالح المناطق الأقل نمواً، علماً بأن الشعوب "غير الروسية" هى التى استفادت من هذا الخط العام الجديد. فانتقل استخدام الفائض المستخرج من المناطق الأكثر تقدماً (روسيا الغربية، وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق) للاستثمار فى المناطق الأقل نمواً (سيبيريا، آسيا الوسطى، الجمهوريات جنوب القوقاز). وساد نظام تماثل ومساواة الأجور والحقوق الاجتماعية. وهو مبدأ يناقض تماماً المبدأ الذى يحكم الرأسمالية، وهو التفاوت فى مستوى الأجور بين المراكز والتخوم. بعبارة أخرى اخترعت السلطة السوفيتية مبدأ "المعونة" الحقيقية، وهو مبدأ لا تزال الرأسمالية تتجاهله فى ممارساتها الواقعية، بالرغم من كلامها حول "لمعونة الدولية"!
ونجح الاتحاد السوفيتى فى رفع قواته المسلحة إلى مستوى قوة عظمى. فألحق الجيش الأحمر الهزيمة بالقوات النازية، ثم استطاع أن يُنهى فى بضع سنوات احتكار الولايات المتحدة للأسلحة النووية والصواريخ. وخلق هذا النجاح "ثنائية عسكرية" اتسم بها النظام العالمى حتى سقوط الاتحاد السوفيتى. ولعبت هذه الثنائية العسكرية دوراً إيجابياً فى ساحة السياسة الدولية، فضمنت لدول التخوم الآسيوية، والإفريقية والعربية المشتركة فى كتلة عدم الانحياز، هامشاً للتحرك المستقل دون أن تخشى عدوانًا عسكرياً من واشنطن. فليس من الغريب إذن أن تكون وشنطن قد استفادت فوراً من سقوط الاتحاد السوفيتى لشن حروب عدوانية ضد دول جنوبية انطلاقاً من عام 1990. لقد فرض الوجود السوفيتى السياسى فى الساحة الدولية نوعاً من النظام متعدد القطبية.
وأخذ النظام السوفيتي يتطور نحو الاستقرار الاجتماعى انطلاقاً من عصر حكم خروتشوف. فبلغ حداً من التنمية أتاح له رفع مستوى المعيشة بشكل ملحوظ ومتواصل .
كان من الممكن اذن أن يحدث تطور تدريجى نحو مزيد من الفعالية الاقتصادية بالانتقال من نمط تراكم توسعى إلى نمط تراكم كثيف من خلال فتح باب للتبادل فى السوق (المصحوب بوضع حدود لعمليات السوق)، ولمزيد من الديموقرطية. بعبارة أخرى كان يحتمل أن يتطور النظام نحو موقع "يسارى وسطى" يحفظ المستقبل. كما كان هناك احتمال آخر يمكن حدوثه هو تحجر النظام وهذا هو ما حدث بالفعل.
رعى برجنيف صعود طموحات الطبقة القائدة المستفيدة من النظام ("النومنكلا تورا") إلى أن تحول أعضاؤها إلى رأسماليين أصحاب الملكية على نمط بورجوازية الغرب، ثم اعتمد يلتسين وجورباتشوف على هذه الطبقة من أجل إنجاز "الإصلاحات" المزعومة تحت عنوان جذاب: "إعادة هيكلة النظام وإضفاء الشفافية عليه". وأثبتت التطورات التى تلت فراغ هذا الشعار الذى اختفى وراءه مشروع إسقاط النظام بأكمله، لتحل محله رأسمالية منفلتة ولصالح بورجوازية خرجت من صفوف النومنكلاتورا.
اعتمدت خطة الإمبريالية- باشتراك يلتسين وجورباتشوف فى تنفيذها– على تبنى وصفة "العلاج بالصدمة"، التى صممتها رأسمالية الاحتكارات الغربية من أجل تدمير فورى وشامل لمؤسسات الدولة بحيث يصبح المجتمع عاجزاً فى مواجهة الهجوم المنهجى المخطط. وقد ساهمت قطاعات واسعة من البورجوازية الروسية، ومثيلاتها فى الجمهوريات المستقلة الجديدة، فى تنفيذ البرنامج، بل قبلت أن تتحول إلى بورجوازيات تابعة لمعرفتها أن هذا هو ثمن إثرائها السريع. وترتب على تضافر هذه العوامل إقامة نظام رأسمالى هش الهيكل.
وتم تحول روسيا إلى وضعية تخومية فى النظام الرأسمالى العالمى المعاصر: فتميل المنظومة الإنتاجية الروسية إلى أن تنحصر فى قطاعات إنتاج المواد الخامة للتصدير- ومنها النفط والغاز بصفة رئيسية- فلم تقم الحكومة بإصلاح القطاعات الصناعية والزراعية وهى قطاعات لا يهتم بها رأس المال الدولى ولا البورجوازية الكومبرادورية الجديدة المحتكرة للسلطة العليا. وتعانى هذه القطاعات من شح الاستثمار المخصص لها. بالإضافة إلى سماح الحكومة بتدمير التعليم والقدرات الإبداعية التى كان النظام السوفيتى يحافظ عليها حفاظ العين. كان نمط التعليم السوفيتى- لا سيما التعليم العلمى- يُعتبر من أرقى ما أُنجز عالمياً. وقد تم تدمير هذا الإنجاز بأسلوب منهجى صممه "خبراء" أمريكان.
ثم تم تفكيك الصناعات التحويلية وبيعت أقسام منها بأثمان رمزية لا صلة لها بالقيمة الحقيقية للأصول العينية (نموذج بيع القطاع العام فى مصر مبارك ومرسى!) وذلك لإقامة "منشآت" تعمل من الباطن لصالح الاحتكارات الأجنبية التى تمتص الفائض المنتج فى نشاطها. أى بعبارة أخرى تبنت روسيا أسوأ نمط من أنماط التبعية الجديدة.
وبالرغم من قبول روسيا شروط الوصفة الليبرالية الفجة واصلت الامبريالية اعتداءها ونقلت هجومها الى المجال السياسى بمساندتها مؤامرة فاشية استولت على الحكم فى أوكرانيا. فأزيح الستار عن أهداف الامبريالية، وهى تخريب الدولة الروسية وليس أقل. لعل بوتين قد أدرك خطورة هذا التهديد على المصالح الوطنية فاتخذ إجراءات فى سبيل تطوير سياسة خارجية مستقلة.
ولكن هذه السياسة الوطنية الروسية الإيجابية، لابد أن تفشل إن لم تكن مدعومة من قبل الشعب الروسى. ولا يمكن أن تفوز بهذا الدعم على أساس "الوطنية" وحدها. ولا يمكن أن تقدم الليبرالية الجديدة لروسيا سوى التدهور الاقتصادى والاجتماعى المأسوى. وفى مثل هذا الوضع، الذى تعيشه روسيا اليوم فى النظام العالمى، ستظل محاولاتها للتصرف بصورة مستقلة على الساحة الدولية هشة إلى أقصى حد، مهددة بالعقوبات والتى سوف تدفع حكم الأقلية الاقتصادية إلى الانحياز الكارثى لمطالب الاحتكارات المسيطرة فى الثالوث.


paper published in a shorter version in Al Ahram, Cairo, on 21/10/2014