اليوان الصينى
ملاحظات سمير أمين فى مشروع تحويلية اليوان
(فبراير 2013)
كتبت هذه
الملاحظات بناءُ على دعوة من أصدقاء صينيين أرسلوا لى مقالين فى الموضوع، أحدهما
صادر من البنك البريطانى HBSC والآخر من
خبير صينى تحت اسم مستعار يبدو أنه قريب من السلطات المصرفية القائدة فى الصين.
ويمكن اعتبار
هذه الملاحظات تكملة لمقالى المعنون "الصين عام 2013" والمنشور باللغة
الإنجليزية فى مجلة منثلى رفيو عدد يناير 2013 (ترجمة عربية للمقال متوافر فى
كتابى "ثورة مصر بعد 30 يونيو") وقد تم نشر هذه الملاحظات فى ترجمة
صينية.
أولا : تتلخص
المقترحات التى قدمها بنك HSBC بخصوص تحويلية اليوان Convertibility فى جملة هى
الآتية: يُنصح للصين أن تتجه نحو قبول تحويلية شاملة لعملتها– اليوان- بمعنى ترك
تحديد سعر هذه العملة لتقدير السوق المالية العالمية للعملاتّ. ويذكر البنك ما
يعتبره مزايا هذا الخيار:
1) أنه يخفف
وزن المخاطر التى تصاحب الوضع الراهن القائم على سياسات الدولة الساعية إلى تثبيت
سعر اليوان؛ 2) أنه يخفف تكلفة التبادلات؛ 3) أنه يوفر للصين مزيداً من حرية
التحرك فى سياستها الاقتصادية الوطنية والخارجية.
ولكن تاريخ
السنوات الخمسين الأخيرة يثبت أن نظام العملة العائمة لم يخفف من شدة تقلبات سعر
الصرف، بل على عكس ذلك، يجعل هذا السعر طائراً أى خاضعاً لتقلبات غير متوقعة
تحكمها ظروف اللحظة وممارسات المضاربة الطارئة.
ولكن بنك HBSC يتجاهل واقع التجربة فيكرر أطروحات المذهب الليبرالى
المنفلت، ومفادها أن "السوق الحرة" تضمن الاستقرار والثبات!
فلنطرح
انطلاقاً من هذه المقدمة، سؤالين ينبغى الإجابة عليهما وهما:
أ. هل يقوم
المذهب الليبرالى على أسس علمية صلبة تكرس التجربة صحتها؟
ب. ما هى
الأسباب التى أدت ببنك HBSC إلى طرح هذه "النصيحة"؟ ما هى المصالح التى قد يخدمها
تبنى نظام العملة العائمة الحرة والتحويلية الشاملة بالنسبة إلى اليوان؟
ثانيًا : لا يقوم المذهب الليبرالى على أسس علمية. فلم تُستخلص
المبادىء التى يُعرف من خلالها هذا المذهب من الفحص المنتبه فى واقع الرأسمالية،
بل استخلصت من بنية خيالية لا تمت للواقع بصلة. أقيمت هذه البنية على تصور مجتمع
خيالى ينحصر فى تعميم التبادل فى أسواق تضم جميع أوجه الحياة الاقتصادية: تبادل
المنتجات (السلع والخدمات)، تبادلالعمل، تبادل
السيولة (توافر النقد)، تبادل وسائل الحصول على الأرض الزراعية، تبادل وسائل الوصول
إلى الموارد الطبيعية. يضاف إلى ذلك أن هذا المذهب يعتبر أن الفاعلين فى هذه
الأسواق الحرة والمعممة هم "أفراد" يتمتعون بالحرية فى تحركاتهم
وبعقلانية سلوكهم. فيحل المذهب "هذا الفرد" Homo Economicus
("الإنسان الاقتصادى") محل الفاعلين الحقيقيين فى الأسواق، وهم: المنشآت
الإنتاجية (قد تكون هى نفسها احتكارات)، والطبقة العاملة المكونة من أفراد ليس
لديهم ما يقدمونه للبيع عدا قدرتهم على العمل، والفلاحين بصفتهم أعضاء فى مجتمع
ريفى له تاريخ، والبنوك (التى تحتكر عرض السيولة) الخ..
فلا يقوم
المذهب الليبرالى على نظرية بالمعنى المفهوم للكلمة، تحترم الواقع حتى تفهم آلياته
فى التحرك، فلا يتجاوز هذا المذهب حدود التصريح بدوجما معروفة سابقاً.
قال دنج هسيو بنج:
"لابد من الانطلاق من ملاحظة الواقع". يفعل المذهب الليبرالى عكس ذلك
تماماً: ينطلق من تصور خيالى لا يمت للواقع بصلة. فهو دوجما وليس نظرية (انظر
الملاحظة الختامية).
والسؤال
الحقيقى الذى ينبغى أن يُطرح هو: ما هى المصالح التى يخدمها المذهب الليبرالى، علماً
بأن هذا المذهب يبذل أقصى جهده لإخفائها؟
والإجابة على
هذا السؤال هى الآتية: المذهب يخدم مصالح الاحتكارات "المؤَموَلة"
للمراكز الإمبريالية (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان) ولا يخدم سواها، هدفه
الوحيد هو تعظيم أرباح هذه الاحتكارات.
أرجو من
القارىء الصينى أن يرجع هنا إلى كتابى المعنون "انفجار الرأسمالية
المعاصرة" - المنشور باللغة الصينية- ووصفى لما أسميته "رأسمالية
الاحتكارات المعولمة، المؤمولة والمعممة" بصفتها ذلك النظام المعاصر المتأزم.
ثالثًا : تبنت الدول الرأسمالية القائدة نظام الصرف العائم
(للدولار، والاسترلينى، المارك ثم اليورو، الفرنك السويسرى، الين اليابانى) منذ
الأعوام 1973/1975. ثم تبنت دول الجنوب النظام نفسه، أو على الأقل فُرض عليها.
ما هى النتائج
التى ترتبت على هذا التحول فى نظام الصرف الفاعل منذ خمسين عامًا والتخلى عن
النظام السابق القائم على أسعار صرف ثابتة.
أولاً، لم
يترتب على هذا التحول تثبيت– ولو نسبى- لأسعار صرف العملات العظمى. بل على عكس ذلك
أنتج النظام مزيداً من التقلبات الطارئة والفجائية فى الصرف. حتى أصبحت أسعار
العملات طائرة لأقصى الحدود. على سبيل المثال: ارتفع سعر الدولار باليورو إلى ضعف ما كان عليه-
وذلك فى ظرف أسابيع- ثم انخفض مرة ثانية! ولا ترجع هذه التقلبات إلى تطور فى درجة
التنافسية المقارنة للاقتصادات المعنية، إذ إن هذا التغير بطىء بطبيعته، بل ترجع
إلى أن نظام الصرف العائم قد فتح باب المضاربة القصيرة الأجل فى أسعار العملات.
فالسؤال التالى منطقياً هو: من استفاد من هذه
المضاربة؟ إنهم الذين يدافعون عن هذا النظام طبعاً.
ثانيًا،
وبالنسبة إلى أسعار صرف عملات دول الجنوب (أى أسعارها بالدولار أو باليورو أو
بالفرنك السويسرى أو بالين اليابانى)، لم يؤد النظام إلى مزيد من الطابع الطائر
لهذه العملات فقط، بل شجع تخفيضاً متواصلاً لا نهاية له لأسعار العملات المعنية.
وقد أتاح هذا التخفيض المتواصل شراء أصول حقيقية تملكها اقتصادات الجنوب (مناجم،
مصانع، سلاسل تجارية، أراض) لصالح الاحتكارات الغربية وبأسعار منخفضة لأقصى
الحدود. وتسعى الاحتكارات الإمبريالية إلى إنجاز هذا الهدف بالتحديد.
ولنضرب مثلاً بالبرازيل، هل شجع تبنى نظام الصرف
العائم رفع معدل النمو فى البرازيل؟ كلا فظل هذا المعدل متواضعاً (3% فقط). فهل
ترغب الصين تخفيض معدل نموها بهذه الدرجة؟
رابعًا : نعود إلى لفت الانتباه إلى هؤلاء الفعّالين فى النظام
العالمى الذين استفادوا من التحول. ولننسى هنا خطابهم الأيديولوجى القائل أن نظام
الصرف العائم يصلح لجميع الدول والشعوب حتى يستفيد منه "كل الناس؛ فرداً
فرداً" (!).
لقد صحب تبنى
هذا النظام تضخيم أرباح الاحتكارات المؤمولة، وهى التى تزاول نشاطها فى الأسواق
المالية العالمية. ولا سيما أرباح أعظم البنوك الأميركية والأوروبية واليابانية. فمن
تحمل عبء هذا التضخيم فى الأرباح المذكورة؟
أنتج تضخيم
أرباح الاحتكارات المأمولة تدهوراً فى معدلات نمو الناتج القومى الإجمالى، أى
بمعنى آخر استتبت حالة ركود عنيد ودائم! لدرجة أن ارتفاع هذا المعدل من 0.1% إلى
0.2% أصبح يعتبر فى الخطاب السائد "انتصارا" وإشارة للخروج من الأزمة!
والبنك HBSC ينتمى إلى
تكتل البنوك العظمى التى انفردت بالاستفادة من نظام الصرف العائم وفتح باب
المضاربة المصاحبة له. فقد أنشىء هذا البنك فى هونج كونج فى أعقاب حرب الأفيون عام
1840 ولم يشارك هذا البنك مصالح "الصين"، بل ظل منذ إنشائه إلى يومنا
هذا غريباً عن هذه المصالح، ويهتم فقط بتضخيم أرباحه.
خامسًا : لقد قاومت الصين (أقصد السلطات الحاكمة والبنك
المركزى) إلى اليوم ضغوط القوى الإمبريالية التى تسعى إلى تنازل الصين عن تحكم
سلطتها فى إدارة اليوان خارج الأسواق العالمية. علماً بأن هذه المقاومة الفعالة
والناجحة قد لعبت دوراً إيجابياً فى إنجاز معدلات نمو مرتفعة بصفة مستقرة.
يقال إن هناك
خطرًا قائمًا ناتجًا عن الطابع الفجائى للتغيرات فى سعر اليوان التى قد تقررها
السلطات الصينية. وهذه بديهية! فليس هناك "سياسة" "معصومة من
الخطأ"! فلا يمكن استبعاد خطأ قد ترتكبه السلطة فى قرارها بالنسبة إلى سعر
اليوان. ولكن هذا الخطر يظل متواضعاً إذ يمكن دائمًا "تصحيح" الأخطاء!
وهذا الخطر الخفيف لا يقارن بفداحة الأخطار التى تسببها ممارسات المضاربة فى حالة
العمل طبقاً لمبدأ الصرف العائم.
سادسًا : تقول النظرية الليبرالية إن الصرف العائم ينتج
الاستقرار، والعكس هو الأقرب إلى أن يكون صحيحًا. وإذا كانت النظرية غير صحيحة فإن
التوابع التى تُستخلص منها تكون أيضاً غير صحيحة.
فحينما يزعم
البنك HBSC أن الصرف
العائم يخفف تكاليف المبادلات، أقول إن العكس هو أقرب إلى الصحة، إذ إن التقلبات
الفجائية المترتبة على المضاربة تسبب تكاليف فى التعامل أعظم بكثير!
وعلى أية أساس
يقال إن الصرف العائم يشجع تنمية التجارة الخارجية؟ هناك عوامل أخرى تتحكم فى حجم
التجارة الخارجية- أهم من التغيرات الطارئة التى قد تحدث فى سعر الصرف- أولها معدل
نمو إنتاج الصين من السلع المصنعة وهى بدورها سلع قابلة للتصدير.
أضيف إلى ذلك
ملاحظة تقع هنا فى محلها: لماذا جب أن تعطى الصين الأولوية الأولى لتضخيم صادراتها
بحيث يكون معدل نموها يفوق معدل نمو الناتج القومى؟
هذا القول غير
منطقى. على عكس ذلك أقول إن الأفضل بالنسبة إلى الصين أن تخفف تدريجياً الأهمية
التى أعطتها للصادرات لصالح مزيد من التركيز على إنماء السوق الداخلية، وبالتالى رفع
مستوى الرفاهية لصالح الطبقات الشعبية.
لماذا يفضل بنك
HBSC إضفاء
الأولوية للتصدير؟
الإجابة تفرض
نفسها هنا: لأنه لم يكن هناك بديل للمستعمرة الصغيرة السابقة (هونج كونج). ولكن
الصين ليست هونج كونج. ينظر البنك HBSC على الصين كما لو كانت "هونج
كونج" كبرى! مضطرة إلى أن تضحى برفاهية شعبها لصالح إنجاز مزيد من التصدير لفائدة
المستهلك الأجنبى. يسبب هذا الخيار فائضاً متزايداً فى ميزان المدفوعات لا طائل من
تحته.
هل يضفى تبنى
نظام الصرف العائم مزيداً من حرية التحرك فى السياسة الاقتصادية الوطنية، كما يزعم
البنك المذكور؟ هنا أيضاً أقول إن العكس هو الأقرب إلى الحقيقة.
فيسبب الطابع
الطائر لسعر العملة مزيداً من التعرض لمخاطر ناتجة عن تقلبات طارئة للأوضاع فى
الخارج. وبالتالى يصغر المساحة المتاحة لمختلف الخيارات البديلة الممكنة.
تختفى أهداف استراتيجية
الإمبريالية السائدة وراء خطاب البنوك العظمى المعنية. وتتلخص هذه الأهداف فى
مشروع إفشال مجهود الصين فى تحقيق السبق فى سبيل إقامة منظومة إنتاجية شاملة
وحديثة ومستقلة. ولذلك أقول إن الوجه المأمول للعولمة يمثل من التبعية أخطر الوسائل
المستخدمة لمنع انعتاق اقتصادات الجنوب، علماً بأن الأمولة تتجلى بالتحديد فى قبول
مبدأ تحويلية الصرف الشاملة، أى الانخراط فى إطار نظام الصرف العائم.
وبالتالى فإن
رفض التحويلية الشاملة بالنسبة إلى اليوان الصينى يشكل محوراً اسمرار مزاولة سيادة
الصين على قرارها.
سابعًا : تختفى هونج كونج وراء بنك HBSC. كانت هونج
كونج مستعمرة بريطانية إلى أن عادت السيادة الصينية تحكمها. فكانت البنية
الاقتصادية التى أقيمت فى هونج كونج بنية كولونيالية بحتة تسيطر عليها رؤوس
الأموال البريطانية، وإن شاركت بورجوازية تجارية كومبرادورية فى أعمالها. وينتمى
بنك HBSC لهذه
التبعية، فهو بنك تملكه الأموال البريطانية مع مشاركة تجار صينيين.
فليس من الغريب
أن يقترح هذا البنك خطاً يسعى إلى تحويل الصين إلى هونج كونج كبرى، أى مستعمرة
يسود عليها المال الأجنبى، مع مشاركة طبقة كومبرادور صينيين.
فهل ترضى السلطة
الحاكمة فى بيجنج بمثل هذه الخطة؟ أم تسعى استراتيجيتها إلى إنجاز العكس، أى تحويل
هونج كونج بالتدريج إلى ولاية صينية حقيقية خاضعة لخطة تنمية صينية فى جوهر
أهدافها، خطة تسعى إلى انقلاب العلاقة، أى إخضاع المصالح الأجنبية المشتركة فى
الخطة إلى أهداف الصين، لا العكس.
يتحدث البنك HBSC عن تايوان
ويقيم مقارنة مفتعلة بين هذه الدولة ودولة الصين. على أن موقف تايوان شاذ. فقد كانت
مستعمرة يابانية إلى أن تولى الكومن تانج مسئولية حكمها. ثم استأصل الكومن تانج
جذور السيادة اليابانية فى مجال إدارة اقتصاد الولاية. وذلك بالرغم من الطابع
الرجعى لحزب الكومن تانج ومشاركة البورجوازية الكومبرادورية فى بنيته.
فصدر هذا الحزب
من حركة وطنية حملت مشروعا بورجوازيا، ثم استفاد من موقعه الاستراتيجى فى مواجهة
الصين الشيوعية ليكسب تنازلات رفضت الولايات المتحدة أن تقبلها لصالح دول أخرى.
كلمة أخيرة:
يمدح بنك HBSC وضع هونج
كونج المالى. فيقول: هنا تراكم ضخم لأموال أجنبية دخلت لأن الباب كان مفتوحاً لها.
ولكن البنك لا يقول ما تفعله هذه الأموال،
وهى مزاولة المضاربة ولا غير. فإذا حققت البنوك الأجنبية (ومنها البنك المذكور) أرباحاً طائلة من وراء المضاربة
المذكورة فهل هذه الثروة هى ثورة الصين أم ثروة الأموال الأجنبية؟
ثامنًا : يختلف موقف محرر المقال الثانى الذى سوف أقدم تعليقاً
بشأنه فيما يلى عن موقف بنك HBSC.
يظل موقف
"سوبنها" (الاسم المستعار المذكور فى المراسلة بينى وبين بيجنج فى هذا
الصدد) متحفظاً إزاء مبدأ تحويلية اليوان. فيقول إن التطور فى هذا الاتجاه لن يبدأ
قبل عام 2020! وإن الدفع "بالبطء" فى هذا الاتجاه مطلوب فى هذا المجال.
حسناً. إذ إن "البطء" يتيح فرصة ملاحظة النتائج التى ستترتب على إنجاز
الخطوات الأولى فى اتجاه التحويلية. وبالتالى فإذا اتضح أن هذه النتائج سلبية
وليست إيجابية (ولا أشك أنه سيكون الأمر كذلك) يظل من الممكن إيقاف الحركة نحو
الكارثة! والتعطيل أفضل من التعجيل إذا كان الطريق لابد أن ينتهى بالكارثة!.
لقد اخترع
خبراء الرجعية العالمية (البنك الدولى، الاتحاد الأوروبى.. الخ) منهج "العلاج
بالصدمة" بالتحديد لجعل إيقاف الكارثة فى الطريق مستحيلاً! يدمر هذا المنهج
كل المؤسسات الوطنية ويستورد فوراً مبادىء الليبرالية المنفلتة! هذا هو مضمون
"التضحية"! هكذا أدى العلاج بالصدمة الذى أخذ به يلتسين فى روسيا إلى
الكارثة الشاملة. ولا ريب أن احتمال خروج روسيا من حالتها الكارثية سوف يحتاج مرور
سنوات.
فإذا تأخرت
الصين حتى عام 2020 قبل أن تتبنى مبدأ التحويلية، لكان ذلك خيراً. أضيف أن
الاحتمال قائم بأن الليبرالية المنفلتة هى نفسها لن تعيش حتى عام 2020. فقد أخذ
هذا النظام فى الانفجار وتعمقت أزمته (راجع كتابى عن "انفجار الرأسمالية
المعاصرة" المذكور أعلاه). وتثبت التطورات الجارية– على سبيل المثال- أن
احتمال بقاء اليورو قائماً إلى هذا الأفق الزمنى أصبح مشكوكاً فيه.
تاسعًا : يذكر الزميل "سوبنها" تصريح زو هسياو شوان-
محافظ البنك المركزى الصينى (ألقى هذا التصريح عام 2009)- بأن رفع دور "حقوق
السحب الخاصة" (SDR) إلى مستوى وظيفة إحدى العملة العالمية إلى جانب العملات الرئيسية
(الدولار، اليورو... الخ) وإلى جانب اليوان الخاضع هو الآخر للتحويلية، قد يمثل
حلاً للأزمة المالية العالمية.
وقد قدمت قراءتي
بين السطور لهذا التصريح. وتوصلت إلى إنه يطرح حلاً يشبه ما كان كينز قد اقترحه
عام 1945: البنكور Bancor.
لقد تصور كينز
رفع البنكور إلى مستوى العملة الدولية الوحيدة، لا عملة دولية إلى جانب أخرى.
واقترح تحديد قيمته على قاعدة سلة مكونة من أهم العملات المستخدمة فى السوق
العالمية وأن تكون نسبة مشاركة كل واحدة من العملات المختارة فى تشكيل السلة هى
نسبة استخدام كل منها فى المبادلات الدولية "الحقيقية" بمعنى العمليات
المتعلقة بالتبادل التجارى والاستثمار الحقيقى، بعد استبعاد عمليات المضاربة من
الحساب.
إنن الغرض من
استخدام البنكور كان بالتحديد إغلاق باب المضاربة، وهو عكس الغرض الذى يسعى إلى
تحقيقه نظام الصرف العائم، ألا وهو فتح المجال لتفشى المضاربة! وأضاف كينز أن نظام
البنكور يقتضى تحديد أسعار العملات الوطنية المختلفة بالبنكور. علماً بأن هذه
الأسعار ستكون قابلة للمراجعة من وقت إلى آخر بحيث يؤخذ بالاعتبار اختلاف النتائج
المترتبة على اختلاف السياسات المتبعة فى الدول المعنية، فيحافظ النظام المقترح
على استقلالية الدول فى تصميم سياستها الاقتصادية.
كنت توصلت إلى
هذا الاستنتاج فور قراءتى "بين السطور" لتصريح زو عام 2009 وعندما قلت
ذلك فى بيجنج عام 2012 لبعض كبار مسئولى السياسة النقدية لاحظت على شفتهم ابتسامة
قد توحى بالموافقة دون الاعتراف الصريح به (أسلوب الدبلوماسية!)
عاشرًا : تثير قضية شراء الصين لأصول أجنبية بعض التساؤلات أود
مناقشتها.
أضفت الصين
أولوية أولى لتعجيل نمو صادراتها حتى صار معدل هذا النمو يفوق معدل نمو الناتج
القومى. الأمر الذى تسبب فى تضخيم مخزون امتلاكتها من العملات الأجنبية (لا سيما
الدولار) الناتج عن الفائض الصاعد فى الميزان التجارى للصين. واستثمرت الصين هذا
المخرون فى شراء أذونات الخزانة الأمريكية بالأساس، وهو استثمار سلبى الربحية إذ إن
سعر فائدة هذه الأذونات يقل عن معدل التضخم المحقق فى الولايات المتحدة.
لعل هذا الخيار
كان دون بديل فى مرحلة انطلاق المشروع الصينى حتى التسعينيات. فقد كانت الصين فى
حاجة إلى استيراد متصاعد من السلع اللازمة لتعجيل نمو اقتصادها: أدوات إنتاج حديثة
وتكنولوجيات متقدمة، مواد خام وطاقة.
بيد أن الصين
خطت فى هذا السبيل بخطوات تزيد عن الحاجة الموضوعية. ويدل تضخيم المخزون من
الدولار على ذلك.
فما معنى
الاستمرار فى هذا السبيل؟ هل يمكن إحلال شراء أصول حقيقية مربحة (مصانع، مناجم،
أراضى، مبانى) محل الاستثمار السائل بالدولار؟ هذا الخيار مغرٍ فعلاً. ولكن يحمل
فى طيه مخاطر مطلوب حسن تقديرها:
1) لأن هذه
الاستثمارات معرضة لمخاطر بينة. بالتأكيد تقوم الدول الإمبريالية باستثمارات من
هذا النوع فى بلدان الجنوب. ولكن هذه الدول تتمتع بالوسائل اللازمة لحماية
استثماراتها: التهديد بالتدخل العسكرى إذا احتاج الأمر ذلك. بيد أن الصين لا تملك
مثل هذه الوسيلة. فلنضرب مثلاً. لنفرض أن الصين احتاجت إلى سحب كمية هامة من
استثماراتها بالأذونات الأمريكية لمواجهة كارثة طبيعية. ولنفرض أن الولايات
الأمريكية رفضت. ماذا ستفعل الصين: إعلان الحرب على الولايات المتحدة؟
ولنضرب مثلاً
آخر. عندما قرر النيدى فى شيلى تأميم مناجم النحاس، ردت واشنطن بالمؤامرة وقامت
وكالة المخابرات المركزية CIA بالانقلاب العسكرى المشهور يوم 11 سبتمبر 1973. فهل تملك الصين
وسائل تسمح لها بالقيام بمؤامرات متماثلة؟
2) لأن بعض
معاملات شراء الصين لأصول حقيقية فى الجنوب تحمل طابعاً سلبياً بالنسبة لاقتصاد
الدولة الجنوبية المعنية، ويمثل شراء أراضٍ زراعية فى أفريقيا مثالاً صارخاً.
وتدمر مزاولة
مثل هذه السياسات احتمال تكريس جبهة واسعة تضم جميع بلدان الجنوب فى مواجهة الغزو
الإمبريالى. وبالتالى تتعرض الصين إلى خطر صاعد فى أن تجد نفسها معزولة فى مواجهة
تهديدات أمريكية.
غير أن هناك
وسائل أخرى لاستثمار الصين فى الخارج دون إلحاق الضرر بالبلدان المعنية. ولنضرب
مثلاً. لنفرض أن الصين تحتاج إلى مزيد من استيراد النحاس. فتقترح على زامبيا
الاستثمار فى مناجم النحاس للتصدير إلى الصين. ألا تستطيع الصين فى مقابل ذلك أن
تشارك بمعونة فى بناء صناعات تحتاج زمبيا إليها؟ علماً بأن "منظمة الدول
المانحة للمعونة" أو تكتل الـ DAT (الدول الغربية والبنك الدولى
الخ) ترفض من حيث المبدأ توجيه معوناتها للتصنيع. لذلك أسميتُ هذه المنظمة
"نادى النهابين". وإذا تصورنا المشاركة بين الصين وزامبيا فى ملكية هذه
المصانع الجديدة، أو أى شكل آخر من المشاركة العادلة، لأصبحت سياسة الصين تدعم
تشكيل جبهة قوية للجنوب فى مواجهة مؤامرات الإمبريالية.
ربما كانت السلطات
الحاكمة فى الصين فقدت الأمل فى كون مثل هذه السياسة لا تزال واقعية وممكنة. وأعتقد
أن هذا الحكم خاطىء.
أنصح زملاءنا
بقراءة كتاب يلماز اكيوز "الأزمة المالية والاختلال العالمى" الذى ناقش
هذه القضية وقدم حججاً مقنعة.
ملاحظات ختامية
(حول الطابع
غير العلمى للاقتصاد الأكاديمى المتداول) يقوم "علم الاقتصاد" المدرس فى
الجامعات الغربية، لا سيما فى الولايات المتحدة، على فكرة مسبقة مفادها استمرار
فعل "إنسان اقتصادى" عبر التاريخ وتحول النظم، إنسان لم يتغير فى جوهر
طابع سماته، فهو "إنسان" ظل ثابتاً فى نوعية تعامله مع الآخرين فى مجال
النشاط الاقتصادى، وذلك بالنسبة إلى جميع المجتمعات وسواء كان عاملاً أو فلاحاً أو
صاحب بنك. ويقابل هذا "الإنسان الاقتصادى" الآخرين فى "أسواق".
بعبارة أخرى يقوم لحم النسيج المجتمعى على فعل الأسواق ولا غير.
ملخص القول أن
العلم الاقتصادى المتفق عليه المعنى هنا يتلخص فى أنثروبولوجيا مبسطة لأقصى
الحدود، لا تمت للأنثروبولوجيا العلمية بصلة! بيد أن "علماء" هذا النوع
من الاقتصاد يتجاهلون غيرها من الوسائل العلمية للتحرى فى مجال الشئون الاجتماعية
والاقتصادية. فيكتفون للتوصل إلى نتائجهم باستخلاص ما يمكن استخلاصه من فعل منطق
التعامل بين الأفراد فى الأسواق المتخيلة.
ليس هذا
الأسلوب فى مزاولة الفكر جديداً فى تاريخ الإنسانية. كان قدماء الصينيين يؤمنون
بوجود التنين. فاستخدم مفكرون أذكياء عقلانيتهم لاستدراج النتائج التى قد تترتب
على أفعال هذه الكائنات الخيالية. وكذلك ناقش علماء اللاهوت المسيحى فى القرون
الوسطى قضية "جنس الملائكة" وكان أذكياء من هؤلاء العلماء مقتنعين بأن
الإجابة الصحيحة على هذا السؤال سوف تساعد فى تفسير ظواهر خاصة بالطبيعة وبالمجتمع.
ينتمى منهج
"علم الاقتصاد المتفق عليه" إلى هذه المدرسة من حيث المنهج. ينطلق من
فكرة مسبقة خيالية. بل أكثر من ذلك. يلجأ علماء الاقتصاد إلى لغة خاصة بهم فى عرض
تسلسل استنتاجاتهم، لغة غير مفهومة خارج حلقاتهم، ويقبل الجمهور هذه الاستنتاجات على أساس "علمية
الخبراء" المزعومة. كما كان "علماء" الماضى، أصحاب السحر يفعلون!
فإذا انطلقت من
موضوعة مسبقة خيالية، يمكنك أن تستخلص منها كل شىء وعكسه، أى لا شىء مؤكد فى واقع
الأمر. ويستخدم علماء الاقتصاد المعنيون منهجاً قائماً على تصور فعل "التوقعات"
التى تتحكم فى تعامل الفاعلين فى السوق. فالإنسان الاقتصادى "يتوقع" كذا
وكذا. ويؤثر هذا التوقع على قراره (يشترى أم يمتنع عن الشراء؟).
فلا ريب أن
النتيجة متوقفة على "التوقعات" وبما أن التوقعات غير معروفة سابقاً، بل
غير محددة (فيمكن أن تكون كذا أو عكسه)، فالنتيجة هى الأخرى غير معروفة قبل أن
تحدث، فيقول العالم الاقتصادى: هذا حدث لأن التوقعات أدت إلى تحقيقه! لا تبذل
الجامعة جهودها لإنماء ذكاء الطالب بل لجعل هذا الذكاء عقيماً.
فإذا كان
السؤال فارغ المعنى (مثل: ما هى سمات التنين، أو ما هو جنس الملائكة)؟، يصبح استخدامك
للمنطق عقيماً. خلاصة القول إن علم الاقتصاد المتفق عليه ليس علماً بل شبه علم.
وقد قام مفكرو هذا العلم بإقامة هذه البنية الغربية من أجل التخلص من ماركس ورفض
مقولاته حول الطابع التاريخى "للقوانين" التى تحكم فعل المجتمع وتطوره.
فلا يتجاوز هذا العلم حدود الأيديولوجيا بمعناها المبتذل (المرادف لـ
"بروباجندا")، فى خدمة المصالح المسيطرة فى المجتمع الرأسمالى، الغرض
منها إضفاء شرعية على سلوك أصحاب القرار الحقيقى.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire