jeudi 28 mai 2015

SAMIR AMIN (in arabic) The deployment of the geostrategy of imperialism in the Middle East (may 2015)



تعطل المشروع الجيوستراتيجى الإمبريالى
مصر عام 2015

لم تغير الثوره النظام، ولكنها غيرت الشعب
( يُقرأ على جدران القاهرة )

جرت مياه كثيرة تحت جسور القاهرة منذ صدور كتابى المعنون "ثورة مصر" عام 2011، ثم كتابى التالى "ثورة مصر بعد 30 يونيو" عام 2013.
وأود هنا طرح ملاحظاتى حول تطور الأمور بعد سقوط حكم الإخوان.
  ولعل ذكر عناوين أهم الحوادث التى سجلها تطور الثورة قد يفيد قارىء النص التالى.
1-      28 يناير 2011 : هروب الإخوان المسلمين والمساجين الجنائيين من سجون القاهرة، قام بالعملية مليشيات حماس التي دخلت فى مصر بطرق مجرمة.
2-      11 فبراير 2011 : تنحى مبارك لصالح المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى كان يرأسه الفريق طنطاوى.
3-      مارس  2011 : قيام مجموعة من أنصار الإخوان اختارهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بوضع مشروع تعديل الدستور، وإجراء استفتاء فورى بهذا الشأن وموافقة أغلبية الناخبين على التعديل.
4-      أكتوبر/ نوفمبر 2011 : انتخابات مجلس الشعب، انتصار الإخوان والسلفيين بنسبة 75% من الاصوات.
5-      ابريل 2012 : المحكمة الدستورية العليا تقضي بعدم دستورية القانون الذي أجريت الانتخابات على أساسه، ومن ثم حل مجلس الشعب.
6-      يونيو 2012 : قرار المشير طنطاوى بإجراء الانتخابات الرئاسية، بعد إصرار سفيرة الولايات المتحدة على ضرورة استعجال التنفيذ، وبعد الإفراج عن خيرت الشاطر (وهو القائد الحقيقي للاخوان). وقد نال كل من المرشحين الأربعة الأُول (اثنان من الإخوان منهم مرسى، حمدين صباحى"الناصرى"، الفريق أحمد شفيق – الوزير السابق فى حكومة مبارك) مابين 4 و 5 ملايين صوت. انتصار مرسى فى الجولة الثانية فى مواجهة منافسه شفيق. هذا هو ما أعلنته سفارة الولايات المتحدة قبل أن تعطى المحكمة الدستورية رأيها فى الموضوع!
7-      ديسمبر 2012 والأسابيع التالية : سلسلة انقلابات غير قانونية قام بها الرئيس مرسى ومنها: الإعلان الدستوري، تعيين أعضاء "مجلس تشريعى" مكون من انصار الإخوان ليحل محل مجلس الشعب المغلق، تعيين لجنة مكونة هى الاخرى من الإخوان وحلفائهم لتحرير مشروع "دستور اسلامى".
8-      30 يونيو : مظاهرة عملاقة تطالب بإقاله مرسى وحكومة الإخوان، عبأت حوالى 30 مليون مواطن، بعد أن جمعت حركة "تمرد" توقيعات حوالى 25 مليون مواطن على هذا الطلب.
9-      3 يوليو 2013 : قرار عبدالفتاح السيسى، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد إحالة الفريق طنطاوى الى التقاعد بإقالة مرسى وإبطال المجلس التشريعى وإلغاء مشروع الدستور الاسلامى.
10- 4 يناير 2014 : استفتاء ثانٍ وموافقة 98% من الأصوات على الدستور الجديد.
11- مايو 2014 : إجراء الانتخابات الرئاسية وانتصار السيسى بما يزيد عن 95% من الاصوات فى مواجهة منافسه الوحيد حمدين صباحى.
12- مارس 2015 : انعقاد مؤتمر اقتصادى فى شرم الشيخ من أجل ضمان تمويل المشروعات الكبرى الخاصة بقناة السويس وإنتاج النفط والغاز.
  وسوف أعود إلى مهزله الانتخابات وإلى مساندة الولايات المتحدة المستمرة لحليفها المفضل (الإخوان) وإلى الممارسات الاجرامية التى قامت بها عصابات الإخوان، الأمر الذى أدى إلى مناهضة الجماهير لاستمرار هذا الحكم، فخلق الظروف الملائمة لإسقاطه.

الثورة المصرية فى مراَة الإعلام الغربى
  تحظى تطورات الأمور فى مصر بنصيب عظيم من الاهتمام فى الإعلام الغربى. يبد أن تقديم الحوادث فيها يتم بشكل مضلل أكثر من المساعدة في فهم الأوضاع فهمًا صحيحًا.
  على سبيل المثال : توصف مظاهرة تجمع بعض المئات من الإخوان على أنها دليل على أن المجتمع يعيش ظروف "حرب اهلية" هذا بينما لا تُذكر حقائق حملة أخرى مثل جمع التوقيعات التى قامت بها حركة "تمرد" ضد حكم الإخوان.
  وينطلق عرض ظروف مصر– فى هذه الوسائل الإعلامية– من فرضيات خبيثة. أولها أن مفاهيم وطموحات الوطنية والاشتراكية تنتمى إلى عصر انتهى زمنه نهائيًا بعد الخروج من عصر "الحرب الباردة"، وأن السبيل الوحيد المفتوح للتقدم هو التكيف للعولمة الاقتصادية الليبرالية، التى تضمن بدورها إنجاز الديمقراطية. علما بأن مفهوم الديمقراطية المطروح يُختصر فى الوصفه المعروفة: التعددية الحزبية وإجراء الانتخابات. ثم يضاف إلى ذلك فرضية ثانية مفادها أن الانتماء "الدينى" يمثل فى ضمير الجماهير المسلمة أهم عامل فى تحديد الذاتية. وبالتالى فإن الحركة الشعبية الوحيدة الموجودة فى الساحة هى تلك التى يحركها التيار الدينى (هنا الإخوان) . ويتسم هذا التيار بتعدد المكونات. ثمة عناصر تقبل الديمقراطية (ومن أمثالهم الإخوان) ثم يقال إن نظمًا عسكرية غير ديمقراطية (لأنها غير منتخب’: حكمت مصر 70 عامًا) ولا يميز هذا الوصف بين غياب "الديموقراطية" فى عصر الناصرية وديكتاتوريات السادات ومبارك. فآن الأوان لقبول حكم الرئيس المنتخب (مرسى).
ويقال إن الشعب لم يسقط نظام الإخوان، فالقوات المسلحة هى التى قامت بانقلاب وأقالت الحاكم المنتخب. وبالتالى فإن المطلوب من أجل دفع الديموقراطية إلى الأمام هو المطالبة بعودة مرسى إلى منصبه. تفترض هذه المقوله أن الأغلبية العظمى من الذين أعطوا أصواتهم للإخوان ظلوا راضين باستمرار حكمهم. ويتجاهل هذا القول تماماً انقلاب نظرة الشعب المصرى إلى هذا الحكم بعد أن ذاق ممارساته المرة.
  سيدرك قارىء هذه السطور الملخصة لجوهر مضمون رسالة الإعلام الغربى أنها قصة لا علاقة لها بحقيقة الاوضاع فلا تضفى هذه القصة صورة موضوعية عن الواقع، ولا هي نتاج تحليل علمى. بل هو خطاب يسعى إلى افساد العقول حتى تقبل دعاية سلطة رأسمالية الامبريالية السائدة عالمياً.

مؤامرة ام استراتيجية للغزو الإمبريإلى؟
كان انفجار ثورة الشعب فى تونس ومصر متوقعًا لمن لاحظ الحوادث العديدة التى أذنت بحدوثه المحتمل القريب، منها إضرابات عمال المناجم فى قفصة (تونس) والإضرابات المتكررة فى مصر ومظاهرة "كفاية"- أولى المظاهرات التي تحدت قوات الأمن. بيد أن حدوث الانفجار قد فاجأ الرأى العام فعلاً، كما فاجأ السلطات فى أمريكا وأوربا.
وقد تجلت هذه الانفجارات فى مظاهرات مدنية سلمية عملاقة، تلقائية إلى حد كبير، ضمت صفوفها قوى اجتماعية وسياسية عديدة ومتباينة، وبالتالى ذات المطالب المختلفة. علماً بأن جمع هذه المطالب فى برنامج موحد لا يزال أمرًا مطلوبًا، ولو أنه لم يتحقق إلى الآن.
يبدو أن التيار الإسلامى هو الآخر يتكون من قوس قزح من الأطراف والمنظمات المتباينة، ولعل بعضها قابلة لأن تصبح ديموقراطية.
هذا هو ما يزعمه الإعلام الغربى. بيد أن هذا الادعاء السريع يتجاهل تمامًا مشاركة جميع أطراف قوس القزح المعنى فى نقطتين أساسيتين: أولاً طابع مشروعها ("أسلمة الدولة والمجتمع"، أى إقامة دولة ثيوقراطية) الذى يعادى الديموقراطية من حيث المبدأ، وثانياً غياب اهتمامها بنقد الاقتصاد الليبرالى، وبالتالى قبولها للاندماج فى العولمة الرأسمالية الإمبريالية القائمة. وسوف نعود لتناول هذه الملاحظات.
يعلم الجميع أن الإخوان عارضوا حركة 25 يناير فوقفوا مع السلطة. فلم يلحقوا بقطار المظاهرات إلا بعد أن أثبت طابع الحركة العملاق استحالة قمعها بالعنف. وعند هذه النقطة هجرت السلطات الأمريكية الدفاع عم مبارك ودفعت الإخوان للتظاهر.
تتخذ تدخلات الإمبريالية فى أمور الدول العربية المعنية أشكالاً متعددة أهمها إعلان الولايات  المتحدة وأوروبا تجديد مساندتها للإخوان. أقول تجديد لأن الإخوان منذ نشأتهم عام 1928 لم يخرجوا عن إطار التحالف مع الرجعية المصرية (النظام الملكى) ومسانديها (البريطانيين ثم الأمريكان). وقد فضح كتاب شريف أمير (التاريخ السرى للإخوان- 2014) واقع هذا التحالف وأشكال عمله عبر التاريخ.
وتسعى تدخلات الولايات الأمريكية إلى تكريس تفتت الحركة وبالتالى جعلها عاجزة عن إنجاز أهداف استراتيجية فعالة.
 ليست هذه الممارسات الإمبريالية ذات طابع "المؤامرة"، كما يزعم البعض إنما هى تجلٍ لاستراتيجية سياسية مدروسة ومنهجية. وقد أثبتت الأمور فعاليتها- للأسف- طالما لم يتبلور فى مواجهتها مشروع إيجابى متكامل يفتح الطريق نحو إنجازات تقدمية صلبة.
علماً بأن تنفيذ هذا المشروع الإمبريإلى من جانب، واعتماده على وسائل المؤامرة من جانب آخر، لا يمثلان بديلين، بل يتكاملان بعضهما ببعض. فلم تتردد الولايات  المتحدة يومًا ما فى اللجوء إلى مؤامرات بالمعنى الحرفي للكلمة: تنظيم انقلابات عسكرية فى أمريكا اللاتينية والفلبين وإندونسيا، صنع ثورات اصطناعية فى أوروبا الشرقية، اغتيال القيادات السياسية التى رفضت الخضوع.. الخ. ويجب تسمية هذه الممارسات باسمها الصحيح: مؤامرات، أساليب إرهاب الدولة.
تعلمت السلطات الأمريكية من تجربتها مع ثورتي تونس ومصر اللتين فاجأتاها كما سبق قولنا. فقررت عدم انتظار انفجار ثورات أخرى فى المنطقة واستباقها بأشكال ثورات اصطناعية فى ليبيا وسوريا. واعتمدت وشنطن على حليفها الإسلامى السياسى الرجعى من أجل تنفيذ الخطة.
ففى ليبيا تم الانفجار بمعرفة وشنطن. فتقدمت عصابات ليس لها طابع المنظمات الأهلية السلمية، وضربت بالسلاح قوات الأمن من أول يوم، وفى نفس اليوم طلبت تدخلاً سريعًا من قبل الحلف الأطلسى "لإنقاذ" شعب ليبيا! وما تلا معروف: اغتيال القذافى بأسلوب إجرامى، تمزيق القطر وتسليمه لأمراء حرب- ومنهم أمراء "الإسلام السياسى"، الأمر الذي الغى تمامًا احتمال تحقيق الديموقراطية المزعومة لإعطاء شرعية للخطة.
هل كانت هذه النتائج غير متوقعة ونتاج خطأ فى تقدير الظروف؟ كلا، كانت هذه النتائج هى الأهداف الحقيقية التى سعت القوى الإمبريالية إلى تحقيقها.
اختلفت الظروف فى سوريا حيث تهيأت شروط انفجار على النمط المصرى ولنفس الأسباب: تدهور الأوضاع الاجتماعية للجماهير- نتيجة سياسات الانفتاح الاقتصادى الليبرالى، غياب الديمقراطية واعتماد النظام على وسائل قمع شديدة فى مواجهة مطالب الطبقات الشعبية والفئات الوسطى. فلم يكن من الغريب فى أعقاب ثورة مصر أن تنفجر فى سوريا مظاهرات سلمية تطالب بالعدالة الاجتماعية والديموقراطية.
تجلت المؤامرة الأمريكية هنا من أول يوم للتظاهر السلمى. فأخذت عصابات الإخوان والسلفيين تضرب فوراً قوات الأمن والجيش الوطنى وتدعو فى نفس اليوم أوروبا وتركيا (عضو فى الحلف الأطلسى) للتدخل العسكرى فى مساندتها.
كانت المؤامرة على وشك أن تنجح بسبب خيار النظام السورى أن يضرب جميع أطراف الحركة–السلمية والعسكرية- دون التمييز بينها، الأمر الذى أعطى للطرف الجهادى فرصة لكى ينفرد فى المسرح. بيد أن تطور الأمور حال دون انتصار جبهة الجهاديين، بالرغم من تدعيمها الصاعد والمستمر بمعرفة أوروبا وتركيا. فأثبت النظام السورى قدرة حقيقية على الدفاع عن نفسه، وذلك جزئياً بفضل استخدام روسيا والصين حق النقض فى مجلس الأمن للأمم المتحدة لفكرة التدخل العسكرى الأجنبى. يذكر القارىء أن روسيا والصين لم ترفضا فى مجلس الأمن اقتراح دول الغرب بالتدخل فى ليبيا. ثم تعلمت الدولتان من هذه التجرية المرة أنه لا يمكن تصديق وعود الدول الإمبريالية.
يضاف إلى ذلك أن الجيش السورى قد ظل قائمًا دون أن يصاب بمظاهر التشقق. وفى هذه الظروف انزلقت جبهة الجهاديين فى  اتجاه تصاعد اعتمادها على الإرهاب، وفتحت السبيل لظهور داعش واحتلالها شمال شرقي سوريا.
ولنعد إلى النظر فى استراتيجية الولايات  المتحدة بالنسبة إلى منطقة "الحزام الأخضر" (وهى التسمية الأمريكية للمنطقة التى تمتد من المغرب إلى إندونيسيا).
نشأت هذه الفكرة عام 1945 عندما قابل الرئيس روزفلت الملك ابن سعود واتفق الطرفان على التحالف الاستراتيجى الذى ضمن توفير النفط لأمريكا فى مقابل تشجيع انتشار نفوذ السعودية فى المجتمعات الإسلامية التى تضم أغلبية شعوب "الحزام الأخضر".
لم تسع هذه الخطة إلى "مكافحة الشيوعية" وعزل الاتحاد السوفيتى والصين فقط، بل شملت مكافحة السياسة الوطنية المستقلة لدول جبهة عدم الانحياز (ومنها مصر الناصرية). وهكذا فإن هذه الخطة بالنسبة إلى الشرق الأوسط وجدت مكانها فى إطار مشروع الولايات المتحدة الذى يسعى إلى فرض هيمنتها على الصعيد العالمى.
ولذلك بالتحديد مازالت الولايات المتحدة متمسكة بتنفيذ الخطة بالرغم من اختفاء العدو الشيوعى، فلا يزال الخطر الحقيقى الذى تخشاه الولايات المتحدة فاعلاً، يتجلى فى ميل روسيا والصين والدول الصاعدة الأخرى إلى فرض نفسها بصفتها فاعلة فى إطار نمط آخر من العولمة والانعتاق من الهيمنة الأمريكية على الكوكب.
وثمة احتمال الآن لحدوث تقارب بين بعض دول المنطقة (مثل إيران ومصر والجزائر) وبين مجموعة الـ BRICS الصاعدة، الأمر الذى يهدد استقرار الهيمنة الأمريكية.
وقد أدركت الطبقة الحاكمة الأمريكية أن الإسلام السياسى الرجعى يمثل فى أيديها الورقة الفعالة التى تستطيع أن تستغلها لمنع نهضة مصر والبلاد العربية الأخرى فى ظل إنعاش "لروح باندونج". أدركت هذه الطبقة الحاكمة أن نظم الحكم باسم الإسلام السياسى ضمانة تمنع ظهور الدول والمجتمعات المقاومة بصفة فاعلين مستقلين فى المجال الدولى. لذلك تواصل دول الغرب الإمبريالى مساندة التيار الإسلامى رغم انزلاقه فى تصاعد الاعتماد على الإرهاب.
وهنا يتقبل خيار معاداة الديموقراطية الذى تتخذه القوى الإمبريالية (بينما تطرح كذبًا الخطاب المؤيد للديموقراطية وسط طوفان الدعاية التى نتعرض لها) يتقبل "التجاوزات" المحتملة من الأنظمة الإسلامية. وهذه التجاوزات محفورة فى "جينات" وسائط تفكير هذه الأنظمة، مثلها مثل غيرها من أنواع الفاشية، وذلك للأسباب نفسها:
عبادة القائد والطاعة العمياء، والاقتناع البالغ بالأفكار الأسطورية التى تنشر التعصب، وتجنيد الميليشيات لأعمال العنف بما يجعل الفاشية قوة يصعب السيطرة عليها. ولا مفر من الأخطاء التى تتجاوز حتى الانحرافات غير المنطقية من وجهة نظر المصالح الاجتماعية التى يخدمها الفاشيون.
علماً بأن هذه التجاوزات الإجرامية تفيد الخطة الأمريكية فتعطى شرعية للمبادرات العسكرية للإمبريالية أمام الرأى العام الغربى.
     تتقبل استراتيجية الولايات المتحدة خطط إسرائيل التى هى الأخرى تسعى إلى تفتيت دول المنطقة– ولا سيما سوريا ولبنان- إلى دويلات قائمة على أسس طائفية أو عرقية أو إقليمية بلا نهاية، على نمط ما فرضه الخلف الأطلسى فى يوغسلافيا. كما أن شعار الأسلمة الذى تدفعه دول الخليج يلغى المواطة القطرية والعربية لصالح إعطاء شرعية لمثل هذه الخطة. على سبيل المثال تلغى الأسلمة المواطنة المصرية القائمة على انتماء الأشقاء المسلمين والأقباط إلى وطن واحد، لتحل محلها العودة إلى ممارسات "أهل الذمة". كما أنها تلغى الوطنية الشامية الكبرى، وبالأولى احتمال تحقيق وحدة القومية العربية، لصالح إقامة مشيخات وإمارات "إسلامية" بلا نهاية.
تتفق هذه النظرة "للذاتية" مع الخطاب السائد الذى تروجه دعاية أمريكا حول حق "الأقليات" في الانفصال عن دولة "الأغلبية". بيد أن هذا الخطاب يتجاهل تماماً أن الديموقراطية لا تعرف أغلبية وأقلية إلا فى الرأى، وهو قابل للتغير، كما يتجاهل أن الديموقراطية تقتضى دفع العمل على أساس مبدأ المواطنة بصفته محدد الذاتية الرئيسى.
خلاصة القول أن تلاقى خطط أمريكا وإسرائيل والخليج فى هذا المجال الرئيسى للتحكم فى مستقبل شعوب المنطقة، يكوّن عمود التحالف الصلب بين هذه الأطراف الثلاث لمنع نهضة شعوب المنطقة.

مهزلة الانتخابات الفورية
يثير إجراء الانتخابات الفورية النيابية (أكتوبر 2010) ثم الرئاسية (مايو 2012) فى مصر الشك فى سلامتها من حيث الشفافية وضخامة التزوير.
جاءت الانتخابات الرئاسية فى شهر مايو 2012 تلبية لطلب الولايات المتحدة بإجرائها الفورى، وذلك أملاً أنها سوف تتيح تصفية النزاع بين عمودى النظام السابق– قيادة القوات المسلحة والإخوان- حول قيادة التحالف بينهما، وبالتالى تحقق تكريس هذا التحالف المطلوب من وشنطن لمنع نهضة مصر وضمان الاستقرار فى ظروف الركود. أى بعبارة أخرى لجأت أمريكا إلى الانتخابات الفورية بصفتها وسيلة لوقف تواصل مسيرة الثورة والحيلولة دون خطر تجذيرها. وثمة أمثلة عديدة فى التاريخ المعاصر تثبت أن هذا هو دور إجراء انتخابات فورية فى ظروف غليان ثورى.
تنافس أربعة مرشحين فى الجولة الأولى لهذه الانتخابات- اثنان من الإخوان (كان مرسى إحدهما)، و"الناصرى" حمدين صباحى، واللواء أحمد شفيق الوزير السابق فى نظام مبارك. وبدا صباحى يمثل مرشح مواصلة الثورة فى غياب تواجد مؤسسة تحالفية تتيح تجاوز تفتيت الحركة. ولذلك استخدمت الولايات المتحدة والرجعية المصرية قدراتها لمنع حصول صباحى على الحد الأدنى من الوسائل المالية المطلوبة لتوصيل صوته للجماهير. هذا بينما استفاد المرشحون الآخرون من المليارات التى صبتها دول الخليج لتمويل حملات دعايتهم. وبالرغم من ذلك جمع صباحى ما يقرب من 5 ملايين صوت، وهو رقم لا يختلف كثيراً عن عدد الأصوات التى نالها كل من المرشحين الثلاثة الآخرين. وأقول بهذا الصدد إن ثمة فرقاً كيفياً بين الملايين الذين أعطوا صوتهم لصباحى والملايين الذين اختاروا مرشحين آخرين. فتمثل "الأقلية" التى ساندت صباحى العنصر الفاعل فى المجتمع، أى تلك الأقلية التى تستطيع أن تجر الأغلبية فى ظروف استمرار الحركة بخلاف "الأغلبية" الذين اعطوا صوتهم للآخرين.
ويقال إن مرسى قد كسب الجولة الثانية ضد منافسه شفيق. على الأقل هذا هو ما أعلنته السفارة الأمريكية قبل أن تعطى لجنة الانتخابات رأيها!
ويعلم الجميع أن أنصار مرسى قد وزعوا على الجمهور ملايين الكراتين المليئة بالأرز والزيت والسكر واللحم. كما أن عصابات الإخوان المسلحة منعت تصويت العديد من المواطنين، وخاصة الأقباط. ولكن المراقبين الغربيين لم يروا شيئاً من ذلك.
كذلك كان شأن الانتخابات الثانية لشهر أكتوبر 2011، المزورة هى الأخرى باستخدام نفس الأساليب. وقد توصلت المحكمة الدستورية فى أبريل 2012 إلى قرار بإبطال هذه الانتخابات وتصفية المجلس الناتج عنها. ولكن السؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: لماذا تأخرت المحكمة الدستورية لمدة 6 أشهر؟ يقال في هذا الصدد أن قيادة القوات المسلحة رأت ميزة فى الانتظار حتى يثبت المجلس "المنتخب" عجزه عن تناول مشاكل المجتمع الاقتصادية والاجتماعية. وأعتقد أن هذا التكتيك قد أثبت سلامته؛ فقد كشف الإخوان وجههم الحقيقى فى غضون أسابيع حتى أدرك أغلبية من أعطوا صوتهم لهم خطأ خيارهم.
لم يهتم الجمهور المصرى بتحرير الدستور، بالمقارنة بما حدث فى تونس. فلم ير الشارع المصرى ضرورة لنقاش الدستور الناصرى المعدل بمعرفة السادات عام 1970. ولم ير هذا الشارع الطابع غير الديموقراطى للنظام الرئاسى من حيث المبدأ، سواء كان طبقاً للدستور المصرى أم للدساتير الرئاسية الأخرى المعمول بها فى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وفرنسا.
اقول إن هذا النمط قد اختُرع بالتحديد للتخلص من النمط الذى كانت أوروبا قد ابتدعته فى القرن التاسع عشر- النظام البرلمانى النيابى. وذلك لأن هذا النظام النيابى يعطى فرصة لإظهار الاختلاف بين برامج مختلف الأحزاب والقوى السياسية العاملة فى المجتمع، وهو يحمل فى طياته خطر "الانزلاق الشعبوى" كما يزعم أعداؤه. والمقصود خطر تحويل الديموقراطية إلى أداة يستخدمها الشعب من أجل دفع مصالحه. ويحول النظام الرئاسى دون ذلك بتحويله المعركة الانتخابية إلى منافسة بين شخصين اثنين حول كسب الوسط. الأمر الذى يؤدى بدوره إلى تقارب المواقف حول ما يُسمى "الموافقة العامة"، وهو تعبير مضلل للإشارة إلى قبول النظام الأساسى كما هو، واستبعاد مناقشة احتمال دفع بديل له. فأصبح هذ النظام الرئاسى ملائماً تماماً لضمان استقرار سلطة الأوليجاركبات التى تتولى إدارة رأسمالية الاحتكارات المعاصرة، وذلك مهما كانت نتائج التصويت.
ونشأ الانزلاق فى الأوضاع الدستورية فى ظل حكم الإخوان بتكوين لجنة مسئولة عن تحرير "دستور إسلامى" على نمط دستور إيران الذى كان قد أثار إعجابًا حماسيًا لدى الإخوان بالرغم من اضطلاع الشيعة بالمبادرة. فقال الإخوان فى الثمانينيات إن ما فعله الشيعة فى إيران يجب أن تفعله السُّنة فى البلاد العربية. بل تصور حكم الإخوان أن العملية أصبحت فى المتناول القريب. لقد تجاهل مرسى أن التيار الدينى بقيادة خمينى هو الذى قاد ثورة إيران عام 1979، وأن أوضاع ثورة مصر مختلفة.
اقترحت اللجنة إلغاء المحكمة الدستورية وإقامة محلها مجلسًا أعلى للعلماء وتفويض هذا الأخير بالسلطة المطلقة: حق نقض أى مشروع قانون، وأى قرار حكومى أو إدارى، وأى حكم تصدره محكمة إذا رأى هو فيه ما يناقض تفسيره لصحيح الشريعة. ويلغى المبدأ تماماً الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لصالح تكريس سلطة عليا وحيدة هى سلطة المؤسسة الدينية.
بعبارة صريحة يلغى الديموقراطية ويقيم محلها نظامًا ثيوقراطيًا. وقد ثار الرأى العام المصرى ضد المشروع، فرحب بقرار السيسى بإلغائه. أما الإعلام الغربى فلم ير مانعاً من تمسك مرسى بمشروعه، الأمر الذى يثبت مرة أخرى أن مساندة الدول الإمبريالية للإخوان ظلت غير مشروطة.
ترجع معاداة الإخوان اللاحقة للنظام الإيرانى إلى أسباب سياسية لا علاقة لها بموضوع الدستور. تقوم نظم الخليج على أساس تحالف تاريخى بين الوهابية والقبائلية وتقسيم العمل بينهما: تتولى الوهابية إدارة المجتمع ويتولى النظام الملكى المطلق إدارة السياسة. بيد أن هذا التحالف أصبح مهدداً من قبل بعض التيارات الإسلامية السلفية (ومنها تيارات وهابية) التى تميل إلى الانعتاق من حماية آل سعود حتى تنفرد هى بجميع المسئوليات فى إدارة القطر. ويقدم بن لادن مثالاً لظهور هذه الفكرة. وفى مواجهة هذا الخطر طلب النظام السعودى من أنصاره فى التيارات الإسلامية التنازل الصريح عن هذه المطالب الموغلة فى الأصولية! ونظراً لإن إجابة الإخوان لم تكن بالصراحة المطلوبة، قرر نظام الرياض وقف مساندته للإخوان الذين عوضوا الخسارة بالتقارب مع قطر، التى اتخذت هذا الموقف لأسباب خاصة لها فى المنافسة مع السعودية.
يضاف إلى ذلك أن الإخوان- بصفتهم حلفاء تابعين للولايات المتحدة- اضطروا لهذا السبب إظهار العداء فى مواجهة الطموحات الإيرانية المحتملة فى الرقابة على مياه الخليج.

صعود وسقوط الإخوان
يقال فى الإعلام الغربى إن مشاركة الإخوان فى مصر وحزب النهضة (فرع من الإخوان) فى تونس قد أضفت على الانتفاضة قوة الاندفاع التى أتاحت انتصار الحركة، الضعيفة دونها.
كلا ففى الواقع أن دخول الإخوان فى المعركة قد أدى إلى انقسام الحركة حول أهدافها. أهى إنجاز المواطنة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية، أم هى أسلمة الدولة والمجتمع؟ وصار هذا الانقسام وسيلة فتحت الطريق لمناورات الدول الإمبريالية التى تسعى إلى تكريس تفتيت الحركة وبالتالى إجهاض أي نهضة حقيقية.
لم يكن انتصار الإخوان فى الانتخابات الفورية فى مصر وتونس حادثاً غريباً، بل أتاحت هذه النتيجة المتوقعة إنجاز هدف خطة الولايات المتحدة.
لقد طرحت فى كتابات سابقة ومنها الكتابان المذكوران (ثورة مصر، ثورة مصر بعد 30 يونيو) تحليلاً لأسباب هذا النجاح للتيار الدينى السياسى وهى ثلاثة:
أولاً:  ثمة علاقة قوية بين سيادة العولمة الإمبريالية من ناحية وصعود شعارات الإخوان من ناحية أخرى. فإن التدهور الذى صاحب العولمة قد أدى إلى انتشار القطاع غير المنظم فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والذي أصبح المصدر الرئيسى لدخل أغلبية السكان. ويملك الإخوان قدرة على العمل فى هذه الظروف. فالوفرة المالية فى بلدان الخليج قد سمحت بطفرة كبيرة فى تلك الأنشطة، حيث تضخ تلك الدول الأموال المطلوبة لهذه الأنشطة فضلاً عن العمل الخيرى، وذلك عبر قنوات الإخوان لتوزيع المال والخدمات. علماً بأن دول الخليج لا تهدف المساهمة فى تنمية القدرة الإنتاجية للاقتصاد المصرى (بناء مصانع مثلاً) وإنما ترمى فقط إلى دعم هذا الشكل من "التنمية الرثة"، وهو بدوره يحول دون إنجاز نهضة حقيقية.
ثانياً: عملت دكتاتورية السادات ومبارك على نزع تسييس الشعب، وذلك بأسلوب منهجى، إذ لم يسمح النظام سوى بخطابين اثنين- خطاب السلطة وخطاب المساجد- الأمر الذى أعطى للإخوان فرصة للظهور بصفة "المعارضة" وإخفاء حقيقة طابعهم ألا وهى أنهم جزء من النظام لا عدوًا له.
وفى هذه الظروف تتطلب إعادة بناء الفكر الديموقراطى الحر المسيس مزيداً من الوقت. ومن ثم كان المطلوب هو فترة انتقالية طويلة وليس انتخابات فورية. يقال إن الانتفاضة الشعبية قد خلقت معجزة العودة إلى التسييس، ولكن ثمة حدودً لصحة هذه المقولة. فلم تدرك بعد الأغلبية فى الحركة استحالة إنجاز الديموقراطية طالما استمر تدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية.
أقصد بالديموقراطية نظامًا يضمن بالفعل على أرض الواقع المعيش حرية تكوين التنظيمات والأحزاب والنقابات حتى تستطيع الطبقات الشعبية أن تنظم نفسها بنفسها للدفاع عن مصالحها. وهذه الفترة الانتقالبية المطلوبة التى قد تستغرق سنوات هى الشرط لترويج ثقافة سياسية مدنية، علمانية، ديموقراطية، وذلك حتى يكون للانتخابات التى ستعقبها معنى. وفى تلك الحالة سيكون الناخبون مسيسين قادرين على الاطلاع على بدائل مختلفة فى جميع مجالات إدارة الاقتصاد والسياسة للمجتمع.
ثالثاً: يقوم التدهور المرسوم فى مجال التعليم بدور حاسم فى الحيلولة دون ترويج روح الديموقراطية، وفى تشجيع انتشار خرافات ثقافوية ماضوية رجعية باسم الدين أو العرق أو غيرها من أنواع الأيديولوجيا المنحطة.
يقوم البنك الدولى وغيره من المؤسسات الإمبريالية بدور قيادى فى تنفيذ هذه الخطة. فتزعم هذه المؤسسات- ويكرر العديد من الحكومات هذا الخطاب- أن تكيف التعليم لمطالب سوق العمل يجب أن يمثل مجهود "الإصلاح" المطلوب. معنى هذا هو إعطاء أولوية "لمدارس الأعمال" ("البزنس سكولز") على حساب الفلسفة والتاريح وغيرها من المواد التى تُعتبر "بلا منفعة"! أقول على عكس ذلك إن تلك المواد "غير النافعة" هى التى تشكل فكراً ناقداً حراً وهو شرط العمل الديموقراطى وإعطاؤه الفعالية.
ففى البلاد الإسلامية انكمشت برامج التعليم حتى اختصرت على "البزنس" والدين. فهل أنتج هذا التيار "إسلاميين حداثيين"، كما يزعم الإعلام الغربى؟ علماً بأن تعريف الحداثة الذى تحمله هذه المقولة ينحصر بدوره فى توفير القدرة على استخدام التكنولوجيات الحديثة. وفي حقيقة الأمر أن هذا التعليم ينتج أفراداً تنقصهم الثقافة المطلوبة لمواجهة تحديات العصر الحقيقية، ولا يرى هؤلاء الأفراد مانعاً فى الجمع بين ما يتصورنه على أنه الحفاظ على العقيدة الدينية وبين اندماجهم فى عالم العمل المعاصر. بيد أن غياب تكوين الفكر الناقد لديهم يجعل فهمهم للدين فهما متخلفاً، متجمداً، فقيراً، ينحصر فى ممارسة الطقوس ولا غير.
إن ما تُسمى "عودة الدين" ليست كذلك، فهى عودة إلى استغلال الدين لمنع حرية الفكر. وهنا ألفت النظر إلى ملاحظة أعتبرها أساسية فى هذا الصدد، ومفادها أن "الفكر الدينى" المعاصر عاجز عن الإبداع فى مجال الفقه نفسه، كما حدث فى العصور اللامعة فى تاريخنا فهو فكر (لا فكر فى الواقع) يكتفى بتكرار النصوص ولا غير.
ليست المعجزة فى نجاح الإخوان فى الانتخابات، بل المعجزة فى الفشل السريع لنظام حكمهم. ففى خلال أسابيع– لا أكثر- افتضح وجههم الحقيقى أمام الجمهور الواسع من المواطنين المنتمين إلى جميع الطبقات، من الفقراء الذين أعطوهم أصواتهم إلى الفئات الوسطى.
فقد تعجل الإخوان فى تعيين أعضائهم فى جميع المناصب. واتضح أنهم جميعاً أو يكاد دون الحد الأدنى من الكفاءة، وأنهم فاسدون إلى أقصى الحدود يسعون إلى الإثراء السريع ولا غير. وتحولت جلسات مجلس الشعب إلى مهازل تثير الضحك مع الدموع. وبالرغم من تصاعد الاحتجاج ضد ممارسات حكمهم تصور الإخوان أن هذه هى فرصتهم التاريخية لإقامة نظام ينفردون هم بإدارته، بل تصوروا أن انتصارهم فى الانتخابات قد منحهم القدرة على التخلص الفورى من مشاركة القوات المسلحة فى الحكم. هكذا ارتكبوا الخطأ الحاسم الذى أعطى للقوات المسلحة فرصة الانحياز لمطالب الشعب من أجل الإطاحة بمرسى ونظامه.

مستقبل الثورات العربية
لم يأت بعد زمن تقويم الثورات العربية. وذلك لأن الحركة التى بدأت قبل أربع سنوات فقط لم تحقق إلى الآن أهدافها. وبالتالى يُحتمل أن نفس الأسباب التى أدت إلى الانتفاضة، والتى لا تزال دون إجابة لها، سوف تؤدى إلى مواصلة الكفاح.
لا يحول تنوع مطالب "الثورة"– وهو أمر طبيعى- دون كونها قابلة للتلاقى فى برنامج مندمج عملى محتمل قائم على الإصلاح فى الاتجاهات الثلاثة التالية:-
1- الخروج من نمط الليبرالية الاقتصادية المعولمة الفجة والتوجه نحو نمط آخر للتنمية الوطنية، الشعبية، الديموقراطية يضمن استفادة الجميع من ثمراتها.
2- التوجه نحو مقرطة إدارة جميع أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
3- تكريس مبدأ احترام السيادة الوطنية وإعادة بناء المنظومة العالمية على أساسه.
سبق أننى لفتُ النظر إلى مركزية الإصلاح فى الشئون الاقتصادية. ذلك لأن دفع الديموقراطية إلى الأمام لن يتحقق فى ظل استمرار تدهور الأوضاع المعيشية بالنسبة إلى الأكثرية. فليست "السوق" و"الديموقراطية" مفهومين يتكاملان بعضهما بعضاً، كما يزعم خطاب الليبرالية السائد. بل على عكس ذلك هما مفهومان يمثلان عنصرين متناقضين فى العمل.
تجلت مطالب الحركة فى الشعارات الثلاث التى ظهرت فى جميع المظاهرات الشعبية أو تكاد:
1- العدالة الاجتماعية،
2- كرامة الإنسان؛
3- كرامة الوطن.
وقد أصبح من الضروري التحديد الدقيق لمضمون كل من هذه الشعارات.
"فالعدالة" فى حد ذاتها مصطلح مرن يُستخدم فى الخطاب الدارج بمعانى متباينة، أو بدون معنى، بصفته "ديكورًا" للكلام.
لذلك قدمت بشأنها الأطروحة التى تربط العدالة بنمط تنمية يُعمل حساب لمقتضياته من الأصل. وبما أن النمط الليبرالى المعولم السائد يحول دون دفع التقدم نحو إنجاز شىء من العدالة، فإن تحقيق الهدف يفترض الخروج من هذا النمط من العولمة، وبالتالى قبول الصراع المفتوح ضد الدول الإمبريالية، صاحبة المشروع. أى بعبارة أدق يستلزم إنعاش "روح باندونج" وفتح طرق للتفاهم بين دول الجنوب من أجل إنجاز التضامن بينها فى مواجهة مبادرات الإمريالية. والسؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن تكرار تجربة باندونج؟
هل يمكن أن يتحقق التضامن المطلوب من "فوق"، أقصد من خلال مبادرات تتخذها الطبقات الحاكمة هنا وهناك فى الجنوب المعاصر؟
لقد تحقق بالفعل مثل هذا المشروع فى عهد باندونج وعدم الانحياز. هل يمكن تكرار هذه التجربة فى الظروف الراهنة؟ ينبع شكى فى هذا الصدد من ملاحظة التغيرات الحاسمة التى حدثت فى تكوين الطبقات الحاكمة المعنية نتيجة اندماجها فى العولمة السائدة. فقد ازدهرت ثروة وقوة هذه الطبقات فى إطار قبولها بقواعد العولمة، وبالتالى لا ترى هذه الطبقات مصلحة فى الخروج منها. وبناءً على ذلك  فإن التوجه نحو نمط آخر للتنمية الوطنية يتطلب بناء تكتل حاكم، وطنى وشعبى وديموقراطى، مختلف عما هو عليه حالياً.
وتجد إشكالية الديموقراطية مكانها فى هذا الإطار والتطلع. فليست وصفة الديموقراطية المطروحة والمختزلة فى التعددية الحزبية والانتخابات هى الوسيلة لبناء مثل هذا التكتل الوطنى، الشعبى، الديمقراطى المطلوب. لذلك طرحت فى مواجهة هذه الوصفة مفهومًا آخر لعملية المقرطة. كما أن مفهوم الديموقراطية الذى أطرحه يفتح السبل لإغناء العملية بإدماجها لأبعاد جديدة للإشكالية. أقصد أولاً البعد البيئى، وثانياً البعد الأيديولوجى البعيد المدى (إحلال مبدأ التضامن محل مبدأ المنافسة فى إدارة المجتمع)، وثالثاً البعد الثقافى (إحلال مبدأ التكامل الحضارى محل التغريب بصفته مرادفًا للتحديث).
على ضوء هذا المقياس للتقويم تبدو إنجازات الثورات العربية تافهة إلى الآن.
يقال إن نموذج تونس يكذب هذا الحكم القاسى÷ إذ إن تقدم هذا البلد نحو تحقيق مزيد من الديموقراطية قد حظى بخطوات ملحوظة.
لا ريب أن قطاعات واسعة من حركة الشعب التونسى قد أظهرت فى العمل تمسكها بقضية الديموقراطية، وذلك بقدر أقوى مما هو عليه فى البلدان العربية الأخرى (ومصر منها). نعم. هذا القول صحيح. وترجع هذه الميزة أولاً إلى مشاركة النساء التونسيات بقدر يفوق ما هو عليه فى مصر على سبيل المقارنة. حتى أقول إن نصف (على الأقل) ما حققته الثورة التونسية يرجع الفضل فيه لنضال النساء من أجل الحفاظ على، وتطوير ما أنجزه نظام بورقيبة فى هذا المجال. وترجع ثانياً إلى تواجد فى ساحة النضال لنقابة قوية (الاتحاد التونسى للشغل) تكونت فى ظل النضال من أجل الاستقلال الوطنى، ثم استطاعت أن تحافظ على درجة عالية من الاستقلال الذاتى فى مواجهة محاولات بورقيبة ثم بن على لعزلها. فصارت مشاركة النقابة محورية فى الثورة التونسية.
بيد أن أغلبية القوى المكونة للحركة التونسية لا تزال تؤمن بأسلوب الانتخابات الفورية التى ضغطت من أجل إجرائها الدول الغربية (لا سيما فرنسا والولايات المتحدة). وأدى هذا الانحياز إلى النجاح المتوقع لحزب النهضة فى الانتخابات الأولى.
فظهرت فى الساحة قوة منظمة تهدد المطالب الديموقراطية للحركة، أقصد خطر دفع تقدم المشروع الثيوقراطى لحزب النهضة بخطوات واسعة. وبناءً على ذلك اضطرت الحركة الديموقراطية لأن تعطى الأولوية فى نضالها للتخلص من هذا الخطر، على نمط ما حدث فى مصر أيضاً. فتحول محور القضية من نضال إيجابى من أجل دفع التقدم الديمقراطى إلى محور دفاعى يطمح إلى الحفاظ على إنجازات الماضى (الدولة نصف العلمانية).
صار الثمن الذى دفعته الحركة التونسية لتحقيق ها الهدف- أى إجبار المشروع الثيوقراطى على الارتداد- صار هذا الثمن غالياً. فوافقت الحركة- بعد الجولة الثانية من الانتخابات وتراجع حزب النهضة- على تكوين حكومة ائتلافية تضم الجميع من الإسلاميين إلى العلمانيين والنقابيين واليسار الاشتراكى، بالإضافة إلى فلول النظام السابق.
لقد أحرق حزب النهضة ذخائره خلال فترة حكمه القصيرة، بيد أن هذا الحكم لم يثر مناهضة صاعدة كما حدث فى مصر. وذلك لأن الغنوشى (زعيم حزب النهضة) قد أثبت قدرة حقيقية على الصبر والمناورة، بخلاف الإخوان المصريين. فأدرك الغنوشى ضرورة التنازل المؤقت عن بعض طموحات برنامجه الأقصى.
وفى هذه الظروف وجد الإعلام الغربى- ومن ورائه العديد من المنظمات غير الحكومية الغربية- ما يثبت صحة أطروحتهم: إن تجرية تونس تثبت تواجد أحزاب إسلامية قادرة على أن تنخرط فى العمل والتطلع الديموقراطى.
ولكن الأغلبية فى الحركة التونسية لا ترى ميزة فى إقامة الحكومة الائتلافية، بل عقبة إضافية.
تظل أوضاع تونس إذن غير مستقرة، مثل ما هى عليه الأوضاع فى مصر. ولنفس السبب الرئيسى: عجز الحكومة وامتناعها عن التوجه نحو إصلاح اقتصادى واجتماعى ذى معنى.
كان الإعلام الغربى قد تكهن بقرب انفجار ثورة فى الجزائر، وهذا لم يحدث لماذا؟
توجد بين الجزائر ومصر الكثير من القواسم المشتركة الموروثة، منذ عهد بومدين وعبد الناصر. فقد حقق مشروع التصنيع والتحديث الشعبى الوطنى المتماثل فى كل من البلدين تقدماً اجتماعياً إيجابياً مهماً، ولكن هذا المشروع لم يتمكن من تجاوز حدوده، وبالتالى فتح الطريق للارتداد عنه. واستفاد الإسلام السياسى الرجعى من الكارثة الاجتماعية التى أنتجها استسلام نظامى ما بعد بومدين وناصر، لوصفات الليبرالية الجديدة. غير أن هذا البديل الزائف المحزن، لقى هزيمة، على الأقل فى الوقت الراهن. ومع ذلك، هناك اختلافات كبيرة بين البلدين جديرة بالذكر.
فقد تعرض مجتمع الجزائر ما قبل الاستعمار، إلى التفكيك جراء هجمة الاستعمار الفرنسى؛ وتمت إزاحة الطبقة الحاكمة الأرستقراطية السابقة من السلطة الحاكمة تمامًا، وكانت النتيجة أن تحول المجتمع الجزائرى إلى مجتمع العامة الشعبوى، الذى يطمح مواطنوه إلى المساواة على نحو لم تعرفه الدول العربية الأخرى. وعززت حرب التحرير الجزائرية هذه التطلعات الاستثنائية، بصورة أكبر. وفى هذا الصدد، تختلف المسيرة التاريخية للجزائر عن غيرها. بينما فى مصر، تولت الطبقة الحاكمة المصرية المتفتحة على البرجوازية الأرستقراطية عملية التحديث منذ البداية، فى زمن محمد على باشا، وإن كانت قد قبلت فى وقت لاحق الخضوع للإمبراطورية البريطانية والنظام الأمريكى.
وفى الجزائر، كشفت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" عن وجهها الإجرامى طوال الحرب الأهلية التى كانت قد بدأتها من تلقاء نفسها. وقد هُزمت على يد الجيش والدولة بدعم من الشعب. كما هزمت  الدولة الجزائرية، فى عهد الرئيس بوتقليفة، مشروع إنشاء ما يسمى "الدولة الإسلامية" التى تحمل اسم "ساحلستان" فى الصحراء الغربية، على حساب الجزائر ومالى والنيجر. وكان من شأن هذه "الإمارة" على نمط دول الخليج، أن تحتكر البترول واليورانيوم والثروة المعدنية الأخرى، وأن تنحاز إلى النمط الأمريكى للعولمة.
وانتهج الشاذلى بن جديد، الذى خلف بومدين، نفس سياسيات السادات ومبارك المتطرفة: الخصخصة بلا حدود، وتورط كبار الضباط فى نهب ممتلكات الدولة، وتفكيك السيطرة الوطنية على البترول، والانفتاح غير المنضبط على الشركات العابرة للقوميات، والفساد. وكانت الجبهة الإسلامية تعتزم متابعة هذه السياسات، ولكن لمصلحة "الأمراء" حصريًا، تمامًا مثل فعل مرسى، ولكن تم تصحيح هذه السياسات جزئيًا فى الجزائر تحت حكم بوتفليقة، بعد الحرب الأهلية، مع خطوات استعادة سيطرة الدولة على الاقتصاد والبترول على وجه الخصوص، بما فى ذلك إعادة التأميم، جنباً إلى جنب مع الانصياع للمطالب الديمقراطية والاجتماعية وحقوق الأمازيغ، على نحو أكبر بكثير فعليًا من أى دولة أخرى فى المنطقة العربية.
لذا ليس من المستغرب أن تقدم الجزائر دلائل على امتلاكها قدرة على مقاومة النظام العالمى الإمبريالى، أقوى من العديد من البلدان الأخرى. ولا شك أن الطبقة الحاكمة الجزائرية مقسمة وغير واضحة؛ لكن الطموح الوطنى لا يزال حيًا بين العديد من قادتها، على النقيض من مصر، والمغرب، والأردن على سبيل المثال، حيث تنحاز البرجوازية المحلية تماماً وتخضع للإمبريالية العالمية. ولجميع هذه الأسباب، تعتبر الجزائر عدوا محتملاً يعتزم الغرب تدميره، إن لم يكن من خلال نظام اسلامى (وقد هُزم) فعلى الأقل من خلال التلاعب بالمطالب الديمقراطية المشروعة، وفى نهاية المطاف انفصال الصحراء ومنطقة القبائل.
لم تمثل إعادة انتخاب بوتفيقة مفاجأة، على الرغم من كبر سنه وحالته الصحية، حيث تدعم الأغلبية خطته لإنعاش البلاد، وترفض بالتأكيد عودة الإسلاميين. فضلاً عن أن انتخابه يتيح وقتاً لتسوية النزاعات الداخلية بين الطبقات الحاكمة، وتجنب الفوضى، غير أن الناس أقبلوا على التصويت بلا حماس؛ فهم يتوقعون أكثر مما تم تحقيقه. ولا يزال مستقبل الجزائر غير مستقر. ويرتبط توطيد سياسة مستقلة بالتقدم الاجتماعى، الذى هو شرط لنجاحها، وهو ما يعنى، كما في أماكن أخرى فى العالم اليوم، تقدمًا كبيرًا فى التحول الديمقراطى للمجتمع. ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كان هذا التحدى مفهوماً ومقبولاً من قبل القوى السياسية المؤيدة للنظام أو المعارضة له، على حد سواء.
لم تتنازل الإمبريالية يوما ما عن هدفها بالنسبة إلى الجزائر، وهو تحطيم انجازات الشعب الجزائرى فى أعقاب انتصاره فى حرب الاستقلال. ولذلك لجأت الإمبريالية إلى خدمات التيار الإسلامى المدعوم من الخليج. فساندت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" التى اتخذت المبادرة فى إشعال الحرب الأهلية فى التسعينيات للقرن الماضى.
وقد حاول التيار الإسلامى السلفى استغلال فرصة "الثورات العربية"، فدعا الجمهور للتظاهر ضد "تكاليف المعيشة المتصاعدة".
بيد أن هذا النداء لم يجد صدى. فتحرك الشعب فى الاتجاه المعاكس وقبضوا على الزعيم الإسلامى بالحاج الذى نفذ بجلده بفضل تدخل قوات الأمن!
إن مصر والجزائر هما الدولتان العربيتان القادرتان على النهضة واللحاق بكتلة الدول الصاعدة المعاصرة. بيد أن هذا لم يحدث إلى الآن. فلم تتبلور القوى المجتمعية المطلوبة لإنجاز مثل هذا المشروع الطموح.
وترجع مسئولية الفشل إلى الطبقات الحاكمة بصفة رئيسية. دون استبعاد مسئولية المجتمع المدنى بمثقفيه ومناضليه فى الحركات الاجتماعية.
وبما أن الثورات العربية لم تحقق إلى الآن ما يمكن أن يُعتبر أهدافها الضمنية، فإن جميع الاحتمالات تظل قائمة بالنسبة إلى المستقبل المنظور.
أفضلها أن تستمر الحركة حتى يرتفع وعيها بطابع التحدى الحقيقى وأن يفرض تجذيرها تغيرات فى نظام الحكم واتخاذه لمبادرات تميل إلى تطوير نمط جديد للتنمية الوطنية الشعبية.
أما أسوأ الاحتمال هو أن تستمر الأوضاع على ما هى عليه حالياً. ففى هذه الحالة لن تخرج المجتمعات العربية المعنية من النفق وستظل عودة الحل الإسلامى المزور مطروحة. ويراهن الطرف الإمبريالى على هذا الاحتمال. لذلك لم يتنازل عنه.
نعم. لقد أثبتت تجربة حكم الإخوان فى مصر وتونس حدود مقدرتهم على الحفاظ على شعبيتهم لدى الجماهير الفقيرة. ولكن ذلك لا يعنى أن هذا التيار قد هجر المسرح نهائياً. فطالما ظلت أوضاع معيشة الجماهير فى التدهور المستمر لا تزال الأرضية الملائمة لنشاط الإخوان والسلفيين قائمة. بل إن ما يصاحب ارتداد حكم الإخوان فى هذه الظروف: هو الالتجاء إلى مزيد من الممارسات الإرهابية. وفعلاً تمثل هذه الممارسات مقدم مسرح الحوادث اليومية.
لقد رأينا نموذجًا لهذا الوضع فيما تلا من الاعتداء على زوار متحف البردو بتونس فى شهر مارس 2015، قبل أسبوع من افتتاح المنتدى الاجتماعى العالمى فى العاصمة التونسية.
فانتهزت الإمبريالية تلك الفرصة الذهبية وأعلنت فورًا ضرورة إعطاء الأولوية لإقامة "جبهة عالمية ضد الإرهاب" تضم جميع نظم الحكم كما هى. وقد قلت فى هذا الصدد وفى لحظتها إن الشعوب ليست فى حاجة إلى مثل هذه الجبهة ضد الإرهاب، بل هى فى حاجة إلى دعم جبهة أخرى تتيح استئصال مصادر ازدهار الإرهاب، ألا وهى جبهة معادية لليبرالية الاقتصادية المعولمة الفجة.
سبق أن طرحت فى الفصل الأول من الطبعة الأولى لهذا الكتاب ما يبدو لى أنها الإجابة الضرورية والممكنة للتحدى. فأدعو القارىء إلى العودة إلى هذه الصفحات ("برنامج فورى لمواجهة التحدى"، صفحات 32-38).
وعند هذه النقطة لعل التذكير بتجربة نشأة وازدهار الناصرية يفيد لإدراك ما يمكن أن يحدث مرة أخرى فى مصر، ولو فى إطار ظروف مستحدثة. فكنت أسعى من وراء نشر بعض الوثائق الخاصة بهذه المرحلة الغائبة عن الأجيال الجديدة (وأقصد التطورات التى حدثت فى مصر بين عام 1952 وعام 1956) أسعى إلى بيان المقارنة بين تحديات الماضى وتحديات الحاضر. وفيما يلى فقرات مستخرجة من هذا الكتاب ("الناصرية والشيوعية المصرية" 2013):
تمحورت سجالات الماضى المكشوفة فى الكتاب حول هذا التحدى بالذات. فتعارض خلالها طرفان (الناصرية والشيوعية) بصفتهما "أخوين/ عدوين" نعم. فمن جانب كان للطرفين صفة الأخوية لأنهما كانا يسعيان إلى تحقيق نفس الهدف، نهضة مصر المستقلة وإنجاز إصلاحات اجتماعية تقدمية. ولكنهما أصبحا فى الوقت نفسه "عدوين" بمعنى أن كلاً منهما قدم طرحاً مختلفاً لأسلوب تحقيق الهدف. فقد كان هناك تحليلان مختلفان للتحدى، ومن ثم طرحان مختلفان.
فمن ناحية، قامت الناصرية على فكرة قدرة "مشروع برجوازى وطنى"- تديره الدولة وتسانده البرجوازية الوطنية- على تحقيق الهدف. أما الشيوعيون (أو بعضهم على الأقل ولفترات من هذا التاريخ) فقالوا إن البرجوازية الوطنية لا تستطيع أن تدفع إلى الأمام مثل هذه الحركة، فهى طبقة ضعيفة تبحث دائمًا عن التوافق مع الاستعمار ومن ثم فإن تحقيق الهدف يفترض إقامة جبهة شعبية واسعة تقودها طليعة. بيد أن هذا الطرح الحاسم ظل فى الواقع ضبابياً ومتحولاً من فترة لأخرى، حتى تنازل عنه الشيوعيين فى خاتمة المطاف.
كما أن الإسلام- فى تلك الأيام وعندما كان هذا السجال يحتل مقدمة المسرح- لم يتخذ طابعًا سياسيًا، وظل وراء الستار. فلم تؤثر القناعات الدينية فى المجال السياسى رغم أنها لم تقل حدةً عما هى عليه حالياً.
إذن لا تنتمى هذه السجالات إلى تاريخ فقط. بل تخاطب مناضلى الحركة المصرية اليوم منذ عام 2011. فنفس الأسئلة التى طرحت فى الماضى، ونفس الإجابات، أخذت تظهر فى الساحة مرة أخرى.
تعتمد سلطة السيسى اليوم على إنعاش نوع من الحنين الضبابى إلى "الناصرية" ويستخدم من أجل ذلك "تحركات" (وإشارات) توحى بأنه يميل إلى "الناصرية"، ولا أكثر. وفى مواجهة هذه الممارسات تظهر من جديد ردود فعل للجمهور تذكرنا تماماً بما حدث أيام الناصرية.    
فهناك من يساند السيسى دون تحفظ. وهو الموقف الذى تتخذه الفئات التى استفادت من النظام السابق ولا تزال تستفيد منه. كما أنه يجذب أيضاً تلك الفئات الواسعة (الموجودة فى كل مجتمع) التى تخشى "التغيير" والمجهول، وتفضل التمسك بالحاضر المعروف.
وهناك من يقول بأن "السيسى عنصر طيب، وقادر على التطور فى سبيل إنعاش ناصرية جديدة، فلنساند مجهوده بدلاً من أن نحاربه". علماً بأن هذا الموقف يذكرنا تماماً بموقف العديد من التقدميين والاشتراكيين والشيوعيين خلال السنوات 1955-1957.
وهناك أيضًا من يعادى السيسى من حيث المبدأ لأنه "عسكرى" ولا يمكن إطلاق الثقة فى العسكريين. فالمطلوب إذن هو حكم مدنى فوراً.
ينقل الوضع الموصوف هنا مركز ثقل الحوار. فيدعو إلى أن نتنازل عن فرض شروطنا فى الحوار، ومحورها هو: كيف يتحقق التوافق بين تعددية مصالح الأطراف المكونة للحركة من جانب، وبين الحاجة التى لا مندوحة عنها إلى توحيد العمل حول أهداف مشتركة من جانب آخر.
هكذا لا نخرج من موقع دفاعى يترك زمام المبادرة للسلطة، فنكتفى يرد الفعل على قراراتها، بدلاً من أن نفرض على السلطة الاستجابة إلى مبادرتنا.
إن الفيروس الليبرالى يعيش على قاعدة سحب تسييس الجمهور، ويبذل مجهودًا منهجيًا لتحقيق هذا الهدف. وقد أنتج سحب التسييس فراغاً احتلته قوى خرجت من وراء الكواليس لتحتل مقدمة المسرح، أقصد التيار السلفى طبعاً. بيد أن الإسلام السياسى المعنىِّ يقبل دون تحفظ الوصفة الاقتصادية والاجتماعية الرجعية لليبرالية ("السوق"، حرية التجارة، قداسة الملكية الخاصة... الخ). إلى جانب الزعم بأن موقع التحدى لا يكمن فى هذه المجالات وإنما فى التفسير الصحيح للمعتقدات الدينية. وبذلك يشترك فى نقل مركز ثقل الحوار بعيدًا عن اهتمامات الجماهير الكادحة.
ولكن الحركة الديمقراطية الواسعة التى أدانت بقوة حكم الإخوان، وبالرغم من ذلك، تقبل هى الأخرى–إلى حد كبير- مقولات الليبرالية. وبذلك تشترك أيضاً فى نقل مركز الثقل من مجال التحدى الحقيقى (الذى يتجلى عبر الصراع الطبقى) إلى مجال حوار سياسى مجرد يختصر فى نهاية المطاف فى الدفاع عن إجراء انتخابات فورية.
ولا يطلب معسكر الاستعمار والرجعية المصرية من التيار الإسلامى ومن التيار الديمقراطى أكثر من ذلك: أى قبول الوصفة الليبرالية.
وقد استخلصت من تحليلى المذكور لمراحل تكوين المشروع الناصرى خلاصة حاسمة مفادها أن ناصر لم يكن "ناصرياً" عام 1952، فصار "ناصرياً" انطلاقاً من الأعوام 1955/1957.
كان أعضاء منظمة الضباط الأحرار ينتمون إلى وسائط محافظة فى المجتمع المصر، باستثناء فردين أو ثلاثة (ولم يكن ناصر منهم)، ومعظمهم قريبون من الإخوان المسلمين. لذلك لم تتجاوز "ثورة يوليو" حدود الانقلاب العسكرى دون برنامج واضح، فلم تكن إذن "ثورة وطنية معادية للاستعمار" كما روج الخطاب اللاحق للنظام. بدليل أن مجلس الإنتاج الذى أنشأته ثورة يوليو قد تبنى برنامج اتحاد الصناعات المصرية، وهو برنامج ينادى بمشاركة الأموال الإمبريالية فى تنمية اقتصاد مصر. لذلك لم تر الولايات المتحدة مانعاً فى انقلاب يوليو.
لعل  جمال عبد الناصر شخصياً قد أدرك بالتدريج عبث هذه النظرة للتنمية التابعة والخاضعة لقواعد العولمة الإمبريالية فى شكلها السائد فى تلك الأعوام. كما لعله قد أدرك صرامة الشروط السياسية التى صاحبتها. لا سيما عندما تجلت مطالب الكتلة الإمبريالية (مشروع أيزنهاور) فى الضغوط المبذولة كى تنضم مصر لمشروعات الحلف الأطلسى الموجهة ضد الاتحاد السوفيتى، مثل مشروع حلف أنقره وإقامة تحالف السنتو CENTO العسكرى (حلف بغداد).
ففى مواجهة هذا المشروع الإمبريإلى السياسى والاقتصادى الشامل، أى مشروع العولمة الإمبريالية فى نمطها المتكيف لظروف العصر والمندرج فى خط الحرب الباردة التى أشعلتها الولايات المتحدة، فى مواجهة هذا المشروع قام بعض الدول الآسيوية بطرح البديل الذى تبلورت مكوناته فى مؤتمر باندونج (أبريل 1955).
وبالفعل طرح مؤتمر باندونج بديلاً حقيقياً للخروج من نفق التبعية الاقتصادية. وسعى بالتحديد إلى تحقيق هذا الهدف بإعلانه ضرورة تكملة الاستقلال الوطنى السياسى المكتسب عبر نضال الشعوب الشرقية بتطوير مشروع تنمية اقتصادية مستقلة هى الأخرى، أى مستقلة عن خط العولمة الإمبريالية. لذلك وصفت باندونج بأنه مشروع عدم الانحياز إزاء العولمة.
اقتنع ناصر فى باندونج بأن هذا هو الخط المطلوب لتكريس وضع مصر عالميًا وخلق ظروف ملائمة لنهضتها. فاتخذ النظام مبادرات فى هذا الاتجاه- أهمها تأميم قناة السويس فى يوليو 1956- أثارت غضب أوروبا (حرب أكتوبر 1956). وقد شجع خروج مصر منتصرة الدفع إلى الأمام (قوانين التأميم العام 1957).
وعند هذه النقطة أدرك ناصر ضرورة التخلص من نفوذ الضباط الأحرار فى السلطة واستبعاد القيادات الرجعية لهذه المنظمة واستبدال مساندتهم بالاعتماد المباشر على شعب مصر.
ونحن الآن أمام تحدٍ له طابع مماثل. فلا يرى كبار الضباط المسيطرون على مجلس قيادة القوات المسلحة، الذين تحولوا إلى مشاركين فى التنمية التابعة التى لازمت الاندماج فى العولمة الإمبريالية من خلال سياسة الانفتاح، لا يرى هؤلاء مصلحة فى الخروج من النمط السائد.
فهل سيجرؤ السيسى على اتخاذ مبادرة فى سبيل تهميش دور المجلس المذكور واستبدال مساندته بالاعتماد على الشعب المصرى، على نمط ما فعل ناصر حينما أصبح ناصرياً؟

تعطل المشروع الجيواستراتيجى الأمريكى
رأينا فى الصفحات السابقة اشكال تفاعل تحركات الشعوب العربية من جانب وتدخلات الولايات المتحدة فى شئونها التى تتجلى من خلالها أهداف استراتيجياتها من الجانب الآخر.
تقتضى هذه الاستراتيجية الإقليمية والعالمية تحطيم مؤسسات الدولة وتفكيك النسيج الاجتماعى إن لزم الأمر فى البلدان القادرة احتمالاً على تهديد استقرار انفراد أمريكا بالهيمنة على الكوكب، مع مشاركة حلفائها المروؤسين (أوروبا واليابان) فى الاستفادة من ثمرات هذه الهيمنة.
هكذا تصبح جميع دول الجنوب والاتحاد السوفيتى السابق أعداء محتملين ومحل غضب وشنطن. وتلجأ أمريكا فى تنفيذ مشروعها هذا إلى المؤامرات والحروب الاستباقية الدموية التى يصل عدد ضحاياها إلى مئات ألوف البشر. ولذلك تأتى الولايات المتحدة على رأس قائمة الدول المجرمة، كما أن مسئولى رسم سياستها ينتمون إلى فئة أكبر مجرمى الحرب ومرتكبى الجرائم ضد الإنسانية.
ويأتى كل من إقليم الشرق الأوسط وإقليم آسيا الشرقية/ المحيط الهادى فى رأس جدول اهتمامات أمريكا فى تنفيذ خطتها العالمية.
تعلم الولايات المتحدة أن عدوها الرئيسى هو الصين. وقد اختارت الصين مجال المنافسة الاقتصادية السلمية كوسيلة للصعود. فتفادت المواجهة على  أرضية العسكرة والسباق فى مجال الأسلحة النووية، وهى الأرضية التى استطاعت الولايات المتحدة أن تفرضها على الاتحاد السوفيتى. ويجد القارىء تحليلاً دقيقياً ومقنعاً لهذه الأمور فى كتاب كورمون (Barthelemy Courmont, Une guerre pacifique, 2014).
وقد تحول هذا الخيار الصينى- أى خيار "الحرب الاقتصادية الناعمة" (soft war) لصالح الطرف الصينى حتى صارت الصين مرشحة لأن تصبح أعظم الاقتصادات فى العالم من حيث الحجم.
فاضطرت الولايات المتحدة فى مواجهة هذا الخطر لأن تكتفى إلى الآن على الأقل بإقامة سور من الدول التابعة لها فى إقليم آسيا/ المحيط الهادى، ودعم تكتل تلك الدول التى تنخرط سياستها فى الخطة الأمريكية الكبرى ومنها حليف رئيسى عن رضاه- اليابان- الذى ينتمى إلى الثلاثية الإمبريالية شأنه فى ذلك مثل أوروبا. ثم حليف محتمل هام- الهند. ثم حلفاء ضعاف مرؤوسين فى شرق جنوب آسيا.
وتستكمل هذه الخطة السياسية بحضور عسكرى مهول فى المحيط الهادى ودعم قواعد عسكرية عملاقة فى كوريا والجزر اليابانية وبلاد أخرى.
يقال أن الولايات المتحدة لهذا السبب (أى أن الصين تمثل العدو الرئيسى) قررت حديثاً "الانسحاب" من إقليم الشرق الأوسط ونقل مركز ثقل اهتماماتها نحو الشرق. ليس هذا القول صحيحاً، إلا جزئياً وظاهرياً فقط. نعم. لعل الولايات المتحدة تواجه صعوبة مالية فى ضمان استمرار حضورها العسكرى المهول فى الإقليمين معاً. ولذلك قررت تحويل نصيب من ميزانيتها العسكرية نحو الشرق. ولكن هذا لا يعنى على الإطلاق أن الولايات المتحدة على وشك الانسحاب من إقليم الشرق الأوسط. إذ إن هذه المنطقة التى تمتد من المغرب إلى إندونسيا ("الحزام الأخضر") تجاور روسيا من الجنوب، وإن روسيا هى الأخرى مرشحة للانضمام فى كتلة الدول الصاعدة التى تناهض الهيمنة الأمريكية.
ويدخل تدخل الحليف الأوروبى فى أوكرانيا فى إطار خطة ترمى إلى إضعاف قدرة روسيا على النهوض.
وتسعى استراتيجية أمريكا فى الشرق الأوسط إلى تحطيم مؤسسات الدولة، وليس أقل. ولم تتنازل أمريكا بعد عن تحقيق هدفها هذا بالنسبة إلى عدد من دول المنطقة ولا سيما إيران ومصر والجزائر، بالإضافة إلى العراق وسوريا. وتستثمر أمريكا آمالها فى احتمال تولى التيار الإسلامى الرجعى السلفى الحكم فى البلاد المعنية، إذ تضمن هذه الكارثة عجز الدول المصابة بها عن النهوض والبزوغ بصفتها دول فاعلة فى النظام العالمى.
وتعتمد الولايات المتحدة من أجل إنجاز خطتها على حليفين مخلصين هما إسرائيل وتركيا (عضو هام فى الحلف الأطلسى) وعلى مشاركة تكتل الخليج بقيادة السعودية، بالإضافة إلى أنصارها فى المجتمعات المعنية.
وقد أتاحت فعلاً مبادرات هذا التكتل من الحلفاء، إلى جانب الغزو العسكرى المباشر للقوات المسلحة الأمريكية، إنجاز أهداف الخطة بالنسبة إلى عدد من دول المنطقة.
فقد أنجزت الخطة أهدافها فى الصومال وليبيا. فتم تحطيم شامل لمؤسسات الدولة فيهما وتفتيت القطر وتسليم الحكم إلى أمراء حرب- ومنهم "أمراء إسلاميون"- حتى تحولت الدولتان إلى قواعد لتنشيط عمليات إرهابية فى دول الجوار، مثل كينيا ومالى والنيجر.
أزعم بهذا الصدد أن النتيجة التى أدت الخطة إليها- بما فيها ازدهار القواعد الإرهابية- كانت مقصودة من الأصل وليست نتاج خطأ فى تقويم الأمور. علماً بأن الطابع الهش من الأصل لمؤسسات الدولة فى الصومال وفى ليبيا قد يسر إلى حد كبير النجاح السريع للخطة. ويبدو السودان مهدد هو الآخر بمستقبل مماثل.
كان العراق يمثل أهم أهداف الخطة. وكانت أمريكا قد قررت تحطيمه قبل حرب الكويت عام 1991 وقبل غزو القطر عام 2003. ولجأ وزير خارجية وشنطن- كولين باول- إلى أسلوب الكذب المقصود من أجل إضفاء "شرعية" على العملية. وذلك عندما ادعى أن "صدام يملك أسلحة للتدمير الشامل". ويُفترض لمبادىء العدالة أن مثل هذا الكذب المفضوح يُعتبر ارتكاب جريمة ضد الإنسانية وبالتالى قابل لرفع دعوى فى شأنها لدى المحكمة الجنائية الدولية. بيد أن تلك المحكمة لا تملك سلطة رفع الدعوى عدا ضد مواطنين ينتمون إلى دول ضعيفة (يوغسلافيا، أفريقيا)، أى بعبارة أخرى ليست هذه المحكمة إلا أداة فى تنفيذ الخطط الإمبريالية، فلا بد لدول الجنوب أن تفضح الأمر وترفض انحياز المحكمة وأن تسحب عضويتها فيها طالما لم تقبل أمريكا توسيع سلطة المحكمة حتى تشمل الجرائم المرتكبة بمعرفتها.
لقد تم تدمير الهياكل الأساسية والصناعات العراقية، ونهب متاحفها وآثارها، واغتيال طلائعها العلمية والثقافية، وفقاً لخطة مرسومة منهجية. ثم استكمل الحاكم الأمريكى للعراق المحتل- بول بريمر- تلك الخطة الإجرامية بتقسيم الوطن العراقى إلى أربع دويلات قائمة على انتماءات عرقية ومذهبية وذلك بقصد إشعال حرب أهلية مصطنعة لا نهاية لها، بين السنة والشيعة، وبين العرب والأكراد، وبين القبائل الكردية، حتى تضمن استمرار العجز الدائم عن إعادة بناء الوطن. كما وفرت السلطات الأمريكية الحماية للشخص الذى أصبح فيما بعد خليفة داعش (أبو بكر البغدادى).
بيد أن نجاح هذه الاستراتيجية التى زرعت الموت قد أنتج ظروفاً ملائمة لدخول إيران فى المسرح من خلال مساندتها لطائقة الشيعة.
وكان لابد من توقع هذه النتيجة. ألم ترها وشنطن؟ أعتقد أن مسئولى رسم السياسة الأمريكية يتمتعون بقدر من العلم والذكاء يتيح إدراكهم لما تفضى إليه أعمالهم. فلماذا إذن توغلوا فى هذا المستنقع؟ إجابتى على هذا السؤال هى الآتية: كانت أمريكا قد خططت للتخلص من النظام الإيرانى فوراً بعد انتصارها فى العراق. وأثارت الولايات المتحدة قضية الصناعة النووية الإيرانية بالتحديد وعمداً من أجل إعطاء "شرعية" لخطتها.
بيد أن إيران تهيأت فى مواجهة الخطر، وساندتها روسيا والصين، حتى استطاعت أن تتحمل عبء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها فاضطرت الولايات المتحدة أن تتراجع تكتيكياً وأن تلجأ إلى خطة بديلة مفادها إضعاف إيران قبل ضربها.
اخترعت أمريكا إشعال ثورة "ربيع" سورى على النمط الليبى، كما سبق الإشارة إليه فى المقال. وتصورت واشنطن أن النظام السورى سوف ينهار وأن القطر سيتفكك على أسس دينية وطائفية وإقليمية، وذلك بسرعة كما حدث فى ليبيا.
هذا لم يحدث. هنا أيضاً ساندت روسيا والصين دولة سوريا فى مواجهتها للغزو. فلم تظهر عوامل انشقاق فى صفوف الجيش السورى. وعند هذه النقطة شجعت الولايات المتحدة ظهور داعش الذى لم يكن كيانه قادراً على التبلور دون دعم الخليج بالأموال والأسلحة واتخاذ وشنطن موقف محايد إزاءه.
ثم انضمت تركيا الإسلامية الجديدة إلى الكتلة التى تُحرك غزو سوريا، حتى أصبح حضور تركيا فى الساحة عاملاً حاسماً فى انتصارات قوات داعش التى احتلت شمال شرق سوريا. ولكن، بالرغم من كل ذلك، لم تأت الخطة بثمارها المنتظرة، أى دخول داعش فى دمشق وانهيار النظام السورى.
أزعم أن هذه التطورات تثببت تعطل الخطة الأمريكية إن لم يكن بعد فشلها الشامل. فارتدت الولايات المتحدة- مؤقتاً وتكتيكياً- فى مواجهة إيران وسوريا. أعتقد أن تصريحات جون كيرى الأخيرة (فى مارس 2015) ومفادها أن الحل يقتضى فتح باب المفاوضات مع بشار الأسد من جانب والحصول على اتفاقية مع إيران فى القضية النووية فى مؤتمر لوزان (فى نفس الشهر) من جانب آخر تقدم دليلاً على ذلك التراجع.
هل ستفتح اتفاقية لوزان فصلاً جديداً فى العلاقات بين واشنطن وطهران؟
أدرك النظم الإيرانى عبث تجمد موقفه فى قضية الأسلحة النوورية. فما فائدة حصولها على قنبلة ذرية أو قنبلتين؛ علماً بأن إخفاء الإنجاز أصبح مستحيلاً، فى مواجهة مئات القنابل التى تمتلكها إسرائيل؟
ألا يعطى ذلك الفرصة الذهبية التى تبحث إسرائيل عنها لضرب إيران بالأسلحة النووية، وذلك بموافقة وتشجيع أمريكا وأوروبا؟
تراهن الولايات المتحدة على أمل آخر وهو أن يتطور موقف إيران فى اتجاه التصالح والتقارب من الغرب فى مقابل رفع العقوبات الاقتصادية وتوفير شروط أفضل لمزيد من اندماجها فى العولمة الاقتصادية.
نعم هذا الاحتمال قائم، وليس الرهان عليه دون أساس وذلك لأن الطبقة الحاكمة فى إيران – مثلها مثل الطبقات الحاكمة الأخرى فى المنطقة- تروى ميول استفادتها من ثمرات الاندماج فى العولمة، ولو دون مشاركة شعبها فى الفوائد. وفى المقابل ينتظر أن تنسحب إيران من الساحة السورية فتترك سوريا معزولة فى مواجهة أعدائها.
ولكن هناك احتمال آخر، وهو الغالب فى رأيى. مفاده أن تعاند إيران فى مشروعها حتى تصبح القوة الإقليمية الرئيسية فى المنطقة. فلا تقبل شروط الخطة الأمريكية ولا تنسحب من الساحة السورية. كما أنها–فى هذا التطلع- سوف تتجه نحو الدول الصاعدة فى آسيا (الصين والهند) وروسيا والتقارب معها لتوازن التصالح مع الغرب.
وتتجاوز هذه الرؤية الإيرانية حدود خطة الولايات المتحدة القائمة على اعتراف لصالح إيران بدور قوة إقليمية "عادية". والمقصود دولة تقبل قواعد سيادة العولمة الليبرالية وتحدد سياستها فى إطارها ولا غير. بعبارة أخرى تراهن أمريكا على العودة إلى التوازن بين الخليج العربى وإيران بصفتهما حليفين لواشنطن، كما كان الأمر عليه فى عصر حكم الشاه. بيد أن إنجاز مثل هذا التوازن يبدو لى قد أصبح مستحيلاً. ذلك بسبب ميول إيران فى ركوب قطار الدول البازغة التى تناهض العولمة الإمبريالية واستدامة هيمنة أمريكا على الصعيد العالمى على أساسها، علماً بأن مشروع كتلة الدول البازغة- وهو فى واقع أمره مشروع إنعاش عدم الانحياز للعولمة– قد دخل فى تناقض متصاعد مع أهداف مشروع الإمبريالية الذى تظل الولايات المتحدة متمسكة بتنفيذه بل فرضه على الدول التى ترفضه وذلك بكل الوسائل فى وسعها.
لذلك أثارت اتفاقية لوزان غضب دول الخليج وإسرائيل (ومن ورائها أوروبا).
تستمر إذن المواجهة بين المشروع الإمبريالى ومشاريع جميع القوى والنظم التى ترفض الخضوع لمتطلباته.
وتجد حرب اليمن الجارية (التى نشأت فى ربيع 2015) مكانها فى هذا الإطار. فاخترع مشروع هذه الحرب والتدخل العسكرى السعودى فى تنفيذه بالتحديد لتسخين النزاع مع إيران التى اتهمت- بلا دليل- بأنها تسعى إلى إقامة نظام شيعى تابع لها فى اليمن. علمًا بأن أغلبية اليمنيين ينتمون إلى الشيعة. ليس النزاع طائفياً بل يدور حول الرقابة على عدن ومدخل البحر الأحمر.
لم ينجح الرئيس على عبد الله صالح- الذى كان يضمن بقاء عدن تحت رقابة الغرب- فى كسب حد أدنى من الشرعية لدى قيادات القبائل (السنة  والشيعة) كما فشل فى محاولته لمسح حنين أهل الجنوب إلى ما كانت دولتهم السابقة قد أنجزته من تقدم اجتماعى، وبالتالى أنتج ضعف نظام صالح تلك الفوضى التى تخشاها السعودية لأنها فتحت الباب لكيانات سلفية معادية ومنها شبكة "القاعدة".
أين تذهب تركيا؟ هل تمثل "الصحوة الإسلامية" بالنسبة إليها قطيعة شاملة أو جزئية فقط مع مشروع الكمالية؟ أهى دولة صاعدة على غرار دول آسيوية معاصرة؟ هل يمثل الحزب الإسلامى نموذجاً مماثلاً للأحزاب المسيحية الديموقراطية الأوروبية، وبالتالى فى سبيل تبنيه ممارسة الديموقراطية على النمط الغربى القائم على العلمانية، بمعنى فصل مجال إدارة السياسة عن مجال الفكر الدينى؟
أم هو حزب أقرب إلى الإخوان المسلمين لم يتنازل عن مشروع "أسلمة الدولة والمجتمع" ولو بالتدريج؟ ما هى رؤية القيادة الجديدة حول قضية انتماء تركيا المحدد الرئيسى: أهو أوروبى أم شرق أوسطى إسلامى؟ هل ستوجه تركيا الجديدة أنظارها نحو الماضى العثمانى وبالتالى تعطى أولوية فى سياستها لبث نفوذها فى المشرق العربى؟ هل هناك عوامل تشير إلى صعود الاقتصاد التركى تشجع هذه الطموحات؟ هل تنظر هذه القيادة إلى دفع مصالحها فى المنطقة بوسائل مستقلة بحيث تصبح القوة الإقليمية الرئيسة، على غرار ما قد تصبو إليه إيران؟ وفى هذه الحالة هل هناك احتمال ظهور تناقضات بين المشروع التركى وبين الخطة الأمريكية؟
أم ستكتفى تركيا بانخراط مشروعها فى إطار قبول سيادة المشروع الإمبريإلى عالمياً وإقليمياً، وبالتإلى تكتفى بدور الحليف على نمط دول الخليج حتى يخدم بث نفوذها استدامة السيادة الإمبريالية ودعم استقرارها؟
سبق أن قدمت فى كتابات أخرى بعض التحليلات حول هذه القضايا، التى سوف أختصر هنا أهم نتائجها:
1- تركيا عضو هام فى الحلف الأطلسى، ولا تفكر فى الانسحاب منه؛ وبالتالى لن تتجاوز سياستها حدود ما يسمح به هذا الانتماء.
2- ليست تركيا اقتصاداً صاعداً صحيحاً على غرار بعض دول الجنوب المعاصر، وبالتالى لابد أن ينخرط دفع محتمل لمصالحها فى الإقليم فى إطار المسموح لها، أى بعبارة أخرى لن تتجاوز وسائل امتداد مصالحها فى المنطقة دور الوسيط المكمل للسيادة الإمبريالية، على غرار دول الخليج.
3- ثمة قسمات خاصة لوضع تركيا ناتجة عن الخطوات التى مرت بها فى سبيل اندماجها فى المشروع الأوروبى، ألا وهى تشابك مصالح الرأسمال الأوروبى المهيمن ومصالح الرأسمال التركى العامل من الباطن، الأمر الذى يقف عقبة إضافية لرفع وضع تركيا لمستوى البزوغ الصحيح.
وبالفعل تخدم تدخلات تركيا فى شئون سوريا تلك الخطة الأمريكية/ الأوروبية، ولا غير. فتورطت تركيا فى المأزق، شأنها شأن القوى الإمبريالية الغربية.
أستنتج من ملاحظاتى المذكورة أن وضع تركيا يظل غير مستقر ويستحيل أن يستقر، لأن مشروعها لن يحقق انجازات صلبة تضيف إليه شرعية ثابتة لدى الشعب التركى، وبالتالى ثمة خطر ظهر فى الأفق وهو انزلاق السلطة نحو اعتمادها المتصاعد على أساليب ديكتاتورية، لعلها فاشية الطابع. وثمة إشارات تدل على أن مثل هذا التطور يمثل خطراً حقيقياً.
تقوم تركيا فى المشرق العربى بدور مماثل للدور الذى تقوم به كولومبيا فى أمريكا الجنوبية، أقصد دور "دولة إمبريالية من الباطن" (وهو التسمية المستخدمة فى أمريكا اللاتينية) تخدم مصالح الإمبريالية السائدة فتدعم فعالية مؤامراتها.
ويمثل ثقل القوة العسكرية التركية وانتماؤها للحلف الأطلسى الأداة المستخدمة من أجل تحقيق الهدف.
إذن ليس هناك تناقض بين مواصلة تركيا دور الوسيط الموصوف هنا وبين إنعاش طموحاتها "العثمانية". فلم تحم السلطة العثمانية الاستبدادية شعوبها (الأتراك والعرب) من غزو الإمبريالية، كما يزعم التيار الإسلامى السياسى المعاصر. بل على نقيض ذلك تماماً فتحت الأبواب للغزو الذى صارت شعوبها (الأتراك والعرب) ضحاياه.
وتقوم حالياً الدولة التركية- التى تميل إلى التحول إلى دولة استبدادية مرة أخرى (شبه فاشية)- بتكرار تاريخ الماضى. ولذلك لا ترى الإمبريالية مانعاً فى انزلاق تركيا نحو الفاشية فما تخشاه الإمبريالية هو تجذير حركة الشعب التركى وتوجهه نحو حل وطنى ديموقراطى شعبى، وهو شرط ترقية تركيا إلى منصب دولة صاعدة صحيحة.
ثمة أمثلة عديدة أخرى تثبت أن الغرب يفضل دعم الفاشية المحلية لنفس السبب، ومنها تدخلات أوروبا فى أوكرانيا التى دعمت صعود القوى الفاشية فى البلاد.
أعود إلى مصر. هنا ترمى خطة الولايات المتحدة إلى منع إنعاش قدرة مصر على النهضة. وكان دعم حكم الإخوان يمثل أفضل الوسائل لتحقيق الهدف. بيد أن هذا الحكم انهار بسبب أولاً انتفاضة الشعب ضده وثانياً رفض قبوله مشاركة القوت المسلحة فى السلطة. وفى هذه الظروف لجأت أمريكا إلى خطتها البديلة، مفادها العودة إلى نمط نظام مبارك. والمقصود تنازل حكومة مصر عن طموحاتها النهضوية والتجاؤها إلى الدعم المالى الخليجى من أجل البقاء -"الرأس فوق سطح المياه"- ولا أكثر.
وخلاصة القول أن ترقية مصر والجزائر وإيران وتركيا إلى منصب الدول الصاعدة الصحيحة مشروطة بانعاش قوة سياسية جذرية قادرة على تحريك طلبات الحركة نحو الحل الوطنى الشعبى الديموقراطى الذى لا مفر منه.

الحق بهذه الدراسة خمس ملاحق تفيد تحليلاً مفصلاً خاصاً بأوجه هامة للإشكالية العامة المطروحة هنا، وهى:

ملحق رقم 1: موقف الثورات العربية من مفهوم العولمة البديلة.
ملحق رقم 2: عودة الفاشية فى ظل الرأسمالية المعاصرة.
ملحق رقم 3: فى أصول الدولة الاستبدادية.
ملحق رقم 4: التحدى الذى واجهته قيادات الدول الاشتراكية.
ملحق رقم 5: التحدى فى دول عدم الانخياز.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire