"بريكسيت"[i]
خروج
بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
سمير
أمين
إن الدفاع عن السيادة الوطنية، مثله
مثل نقدها، يؤدى الى سوء تفاهمات جسيمة عندما نسلخها (أي السيادة الوطنية) من
المحتوى الاجتماعى الطبقى لاستراتيجيتها. فالكتلة الاجتماعية المسيطرة فى
المجتمعات الرأسمالية ترى السيادة دائما كأداة ضرورية لدفع مصالحها الخاصة القائمة
على استغلال النظام النيوليبرالى العالمى للعمل، وعلى تقوية مواقعها الدولية فى آن
واحد. واليوم فى النظام النيوليبرالى المعولم والمسيطر عليه من قبل الاحتكارات ذات
الصبغة المالية في الثالوث الاستعمارى (الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا
واليابان) ترى القوى السياسية المسئولة عن إدارة النظام للمصلحة الحصرية
للاحتكارات المذكورة ان السيادة الوطنية هى الأداة التى تسمح لهم بتحسين مراكزهم
«التنافسية» فى النظام العالمي. وتشترك جميع الوسائل الاقتصادية والاجتماعية
للدولة (إخضاع العمل لشروط أصحاب العمل وتنظيم البطالة والوظائف المؤقتة وتجزئة
مجال العمل) والتدخلات السياسية (بما فيها
التدخلات العسكرية) تشترك فى السعى وراء هدف حصري: وهو تعظيم حجم الريع المدفوع
لاحتكاراتهم "القومية" إلى اقصى درجة.
يزعم الخطاب الأيديولوجي الليبرالي
المنمق أنه ينشئ نظامًا يقوم فقط على السوق المعممة، التي يتوقع من آلياتها الخاصة
أن تضبط نفسها بنفسها، وأن تكون منتجة لأفضل الآثار الاجتماعية (وهو محض هراء)، حيث يفترض أن تكون المنافسة حرة وشفافة (وهو مالا يوجد
ولا يمكن أن يتحقق في عصر الاحتكارات). كما يدعي ذلك الخطاب أن الدولة لا يجوز أن
تلعب أي دور سوى ضمان سريان المنافسة (وهو ما يتنافى مع الحقائق: فالخطاب
الليبرالي يطلب من الدولة أن تتدخل بنشاط لحماية الاحتكارات، أي أن تصبح
الليبرالية المزيفة سياسة رسمية للدولة). وتَحُوْل هذه السردية- المعبرة عن
أيديولوجية "الفيروس" الليبرالي- دون أي فهم لقيام النظام بوظائفه، وكذا
دون اضطلاع الدولة والسيادة الوطنية بوظائفهما.
وتعطى
الولايات المتحدة الامريكية مثلا واضحًا لوسيلة تنفيذ مقررة ومستمرة لهذه السيادة
المتفق عليها فى المفهوم «البورجوازي»، ما يعنى اليوم خدمة رأسمال الاحتكارات المؤمولة
(ذات الصبغة المالية) حيث يكون الحق «القومي» للولايات المتحدة الامريكية منبثقًا من
التفوق المشهود والمؤكد على «الحق الدولي». كانت تلك هى الحال فى دول أوروبا
الاستعمارية فى القرنين التاسع عشر والعشرين.
فهل اختلفت الأحوال ببناء الاتحاد
الأوروبى؟ يدعى الخطاب الاوروبى ذلك، حيث يشرع بالتالى في إخضاع السيادات الوطنية
«للحق الأوروبي» الذى تمليه قرارات بروكسل والبنك المركزى الاوروبى، عملا
باتفاقيات ماستريخت ولشبونة. ورغم ذلك وعلى النقيض من هذا الخطاب تمارس ألمانيا فى
الواقع سياسات تؤدى الى تأكيد سيادتها الوطنية وتعمل على إخضاع شركائها الأوروبيين
لاحترام اشتراطاتها.
وهكذا استغلت المانيا الوصفة النيوليبرالية الأوروبية لفرض هيمنتها، خاصة فى منطقة
اليورو. وقد أكدت بريطانيا العظمى بدورها ـ باختيارها البريكسيت (الخروج من
الاتحاد الأوروبي)ـ رغبتها المحددة في تنفيذ الامتيازات التى تتيح ممارستها
سيادتها الوطنية.
نستطيع أن نفهم من هذا أن "الخطاب القومي" والفضائل الممتدحة بلا
نهاية للسيادة الوطنية (كسيادة رأسمالية- برجوازية) يتجاهل المحتوى الطبقي للمصالح
الذي يخدمها، والتي تعرضت دائمًا للتحفظات- لنقل المتواضعة- من جانب تيارات اليسار
بمعناه الواسع، أي كل أولئك الراغبين في الدفاع عن مصالح الطبقات العاملة.
ولكن علينا أن نتحفظ إزاء اختزال
السيادة الوطنية فى أساليب «القومية البورجوازية» فقط، لأن الدفاع ضرورى أيضا
لخدمة مصالح اجتماعية غير مصالح الكتلة الرأسمالية الحاكمة. فيصبح مرتبطا بشكل
وثيق بنشر استراتيجيات خروج من الرأسمالية على الطريق الطويل للاشتراكية، وهو ما يشكل
شرطا أساسيا لإنجازات ممكنة فى هذا الاتجاه. والسبب هو أن إعادة النظر الفعلية فى
واقع الليبرالية الجديدة العالمية و(الأوروبية) لن تكون أبدا لصالح إنتاج إنجازات
غير متساوية من بلد لآخر، من حين لآخر. فالنظام العالمى (والنظم الفرعية
الأوروبية) لم يقع عليه إصلاح أبدا «من الأعلي» عن طريق قرارات جماعية من «المجتمع
الدولي" (أو «الأوربى»). إذ إن تطورات هذه النظم لم تكن أبدا غير نتاج تغيرات
فرضت نفسها فى إطار الدول التى تكونها، وكنتيجة لتطور التنافر بين هذه الدول. ويبقى الإطار
المحدد من الدولة (الوطن) هو الذى تنتشر داخله الصراعات المصيرية التى تشكل العالم.
وقد عرفت شعوب
الأطراف المحيطة بالنظام العالمي، المستقطب بطبيعته، تجربة طويلة مع هذه القومية الإيجابية،
أى المناهضة للإمبريالية (المعبرة عن رفض النظام العالمى المفروض) وباحتمالية
مناهضة الرأسمالية. أقول بـ "احتمالية" لأن هذه القومية يمكن أن تكون أيضا
حاملة لوهم بناء رأسمالية وطنية تتمكن من «الالتحاق» بالمنشآت الوطنية للمراكز
السائدة، فلا تكون وطنية شعوب الأطراف تقدمية إلا عند تحقق الشرط التالي: أن تكون
مناهضة للإمبريالية، وفاقدة الصلة بالليبرالية الجديدة المعولمة. وعلى النقيض من
هذا فإن «قومية» (ظاهرية فقط) ملتحقة بالليبرالية الجديدة المعولمة، لا تشكك
بالتالى فى مواقف التبعية التى تتخذها الأمة المعنية فى النظام، تصبح أداة بأيدى
الطبقات الحاكمة المحلية التى تهدف الى المشاركة فى استغلال الشعوب وربما الشركاء
الضعفاء فى الأطراف، حيث تتعامل هذه الطبقات معهم بصفة «ملحق استعمار."
إن التطورات
الأخيرة- جسورة كانت أم مقيدة- تسمح لنا بالفكاك من الليبرالية المنمقة والمزيفة،
وهو ما يعتبر ضروريًا وممكنًا في سائر أرجاء العالم، شماله وجنوبه. فقد خلقت أزمة الرأسمالية
أرضية مواتية لإنضاج الشروط الثورية. وأعبر هنا عن هذه الضرورة والإمكانية
الموضوعية بالجملة القصيرة الآتية: "هل المطلوب هو الإفلات من أزمة
الرأسمالية أم من الرأسمالية المأزومة؟" (وهو عنوان أحد كتبي). فالإفلات من
الأزمة ليس مشكلتنا، وإنما قضيتنا هي الخلاص من الحكام الرأسماليين. وسواء نجحوا
(وفي رأيي أنهم لا يشتبكون مع الأزمة بالطرق التي ستسمح لهم بذلك) أم لم ينجحوا..
هذه ليست مشكلتنا. فما هو مكسبنا من مشاركة خصومنا في إحياء الليبرالية المنمقة
المحطمة؟ لقد خلقت الأزمة فرصًا لتحركات ثابتة إلى الأمام، متفاوتة في جسارتها،
آخذين في الاعتبار أن تتبنى الحركات المقاومة استراتيجات يقودها الهدف. من ثم يكون
التأكيد على السيادة الوطنية مطلوبًا لدعم تلك التحركات التي ستكون متفاوتة
بالضرورة بين بلد وآخر، لكنها تكون في صراع دائم مع الليبرالية المنمقة. وهو ما
يستهدفه مشروع السيادة الوطنية، الشعبي والاجتماعي والديمقراطي كما تطرحه هذه
الورقة. جدير بالذكر أن مفهوم السيادة الوطنية المطبق هنا لا يقصد به السيادة
الرأسمالية- البرجوازية، ولما كان يختلف جذريًا عنها يجب تصنيف السيادة المبتغاة
على أنها السيادة الشعبية.
إن
الخلط بين هذين المفهومين المتعارضين، الذى يؤدى الى الرفض المتسرع لكل «قومية»
بلا مزيد من الدقة، يمحو تماما كل امكانات الخروج من الليبرالية الجديدة. ومع
الأسف فإن اليسار المعاصر الملتزم بالصراع فى أوروبا- وفى أماكن أخرى- يمارس كثيرا
هذا الخلط.
إن الدفاع عن السيادة الوطنية ليس
مرادفا بسيطا لإرادة «عولمة أخرى متعددة الأقطاب» (على نقيض مثال العولمة
الموجودة) مبنية على فكرة أن النظام الدولى يجب أن يناقَش بين شركاء قوميين سياسيين
متساوين فى الحقوق، وألا تكون مفروضة من جانب الأقوياء- الثالوث الاستعمارى وعلى رأسه
الولايات المتحدة الامريكية- كما هى الحال فى الليبرالية الجديدة . لكن لابد من
الإجابة على سؤال: ما الجدوى من عالم متعدد الأقطاب؟ لأنه
يمكن أن يقوم على فكرة إدارته من قِبَل التنافس بين نظم تقبل الليبرالية الجديدة، أو
على النقيض كإطار يفتح المجالات للشعوب التى تريد الخروج من الليبرالية الجديدة.
يجب إذن تحديد طبيعة الهدف المنشود من
النظام متعدد الأقطاب المطروح. وكما تعودنا من التاريخ فإن المشروع القومى يمكن أن
يكون خليطا، تتخلله التناقضات بين التوجهات التى تنتشر فيه، فبعضها قد يحبذ فكرة
بناء قومية راسمالية، والبعض الآخر له أهداف أخرى أبعد ذات مضامين اجتماعية تقدمية.
ويضرب المشروع السيادى الصينى مثلا جميلا فى هذا المضمار مثله مثل المشاريع النصف
سيادية للهند والبرازيل وغيرهما.
الاتحاد الأوربى معطل
بالرغم من كون انهيار المشروع الأوروبي
(وبشكل خاص نظام اليورو) يجري فعليًا منذ سنوات (راجع سمير أمين: الانفجار الداخلي
للرأسمالية المعاصرة The implosion of contemporary capitalism) فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (المعروف اختصارً بـ
"بريكست") يشكل تعبيرًا واضحًا عن ذلك.
فقد كان متصورًا أن المشروع الأوروبي منذ بدايته عام 1957 يمثل أداة بيد
الاحتكارات الرأسمالية لأولئك الشركاء (خاصة فرنسا وألمانيا) وبتأييد من الولايات
المتحدة، لتخفيف مخاطر تحولات اشتراكية أو راديكالية أو معتدلة. لذا شددت معاهدة
روما بصرامة على قدسية الملكية الخاصة، وجرمت الطموح الاشتراكي كما قال جيسكار
ديستان. ومن ثم تَعزَّز هذا الطابع تدريجيًا ببناء أوربي رسخته معاهدتا ماسترخت
ولشبونه. وكان الادعاء المنسق الذي روجت له البروباجندا للقبول بالمشروع هو أنه قد
صفّى نهائيًا السيادة الوطنية لدول الاتحاد، أي تلك السيادات (بصيغتها البرجوازية/
الإمبريالية) التي كانت أصل المذابح غير المسبوقة التي جرت في الحربين العالميتين
خلال القرن العشرين. ولهذا لقي المشروع ترحيبًا كبيرًا من الأجيال الجديدة التي
تعلقت بسيادة أوربية ديمقراطية وسلمية تحل محل السيادات القومية السابقة التي
أشعلت الحروب. وفي حقيقة الأمر لم يتم القضاء قط على سيادة الدول الأوروبية، وإنما
تم دفعها لقبول الليبرالية المنمقة، ولتصبح الإطار الضروري لضمان استمرار
الاحتكارات المؤمولة في احتكار الإدارة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
للمجتمعات الأوروبية، وأيًا كانت التطورات المحتملة للآراء. لقد بُنِي المشروع الأوروبي
على إنكار مطلق للديمقراطية (التي نفهمها كممارسة للاختيار بين مشروعات اجتماعية
بديلة) يتجاوز اتهام بيروقراطية بروكسل بـ "القصور الديمقراطي". فقد أعطى
المشروع أدلة متكررة تقضي على مصداقية انتخابات لا تكون نتائجها شرعية إلا
بالامتثال لمتطلبات الليبرالية المنمقة.
لقد استطاعت
المانيا تأكيد هيمنتها فى إطار البناء الأوروبى، فبرزت السيادة (البورجوازية/
الرأسمالية) الألمانية كبديل للسيادة الأوروبية المفقودة، وصار على الشركاء
الأوروبيين الالتزام بشروط هذه السيادة الأعلى من الآخرين . أصبحت أوروبا هى أوروبا
الالمانية خاصة فى منطقة اليورو التى تدير برلين عملتها لمصلحة مجموعة الشركات
الألمانية. ويلجأ سياسيون ألمان كبار مثل شوبل وزير المالية الى الابتزاز الدائم
ويقومون بتهديد الشركاء الأوروبيين بخروج المانيا من الاتحاد «جركسيت» اذا ما
اعترضوا على الهيمنة الالمانية.
ولا مفر من
أن نستنتج من الحقائق السابقة أن النموذج الألماني يسمم أوروبا، بما فيها ألمانيا
نفسها. فالليبرالية المنمقة هي مصدر الركود الدائم في القارة، مصحوبًا بسياسات التقشف
المتواصل.
ومن ثم هي نظام غير عقلاني من
منظور حماية مصالح الأغلبيات الشعبية في كل بلدان الاتحاد الأوروبي، بما فيها
ألمانيا، كذلك بالنسبة لآفاق الدفاع طويل الأمد عن الشروط الإيكولوجية لإعادة
إنتاج الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وفوق هذا، تقود الليبرالية المنمقة إلى
تصاعد دائم في عدم المساواة بين الشركاء، وهو مصدر الفوائض التجارية الألمانية
والعجز المقابل عند الآخرين.
غير أن الليبرالية المنمقة تعتبر خيارًا عقلانيًا تمامًا من منظور
الاحتكارات المالية حيث يضمن هذا الخيار النمو المتواصل لريوعها الاحتكارية. لكن
هذا النظام غير قابل للحياة. ليس لأنه يواجه مقاومة متزايدة من ضحاياه (فهي ليست
فعالة حتى الآن) وإنما بسبب تناقضه الداخلي: حيث يؤدي نمو الاحتكارات الريعية إلى
فرض الركود وازدياد أوضاع الشركاء الضعفاء سوءًا (اليونان وغيرها).
إن قبطان السفينة الأوروبية يتوجه بها
حتمًا نحو الشعاب المرجانية الظاهرة بينما يتضرع له الركاب كي يغير المسار ولكن
دون جدوى. يبقى القبطان الذى يتمتع بحماية الحرس البريتورى (بروكسل والبنك
المركزي) منيعا، ولم يعد ممكنًا سوى إلقاء قوارب النجاة فى البحر. عملية محفوفة
بالمخاطر ولكنها أقل خطرا من الحادث المرتقب. وأنا من القائلين بأنه لا شىء يرجى
من المشروع الاوروبى الذى لايمكن تغييره من الداخل. إنما يجب الهدم لربما يُعاد
البناء لاحقًا على أسس أخرى. ومازالت نظم كثيرة على خلاف مع الليبرالية الجديدة فى
حالة تردد بشأن الأهداف الاستراتيجية لمعاركها لأنها ترفض القبول بهذه النتيجة:
الخروج أم البقاء فى اوروبا (أو فى اليورو)؟ وتتنوع بذلك الحجج بينهم حتى لأقصى
مدى لتتطرق غالبا لمسائل تافهة، بل لمشكلات وهمية أحيانا يدبرها الاعلام (الأمن،
المهاجرون) تقود الى اختيارات فجة ونادرا ما تطال التحديات الحقيقية .فالخروج من حلف الناتو مثلا نادرا ما
يثار وتظل الموجة الصاعدة المعبرة عن رفض أوروبا- مثل «البريكسيت»- انعكاسًا لزوال
الأوهام فى إمكانات الإصلاح.
من جانبي أقول إنه لا شيء متوقع من المشروع الأوروبي الذي لا يمكن تحويله
من داخله، ولا بد من تفكيكه وإعادة بنائه فعليًا فيما بعد على أسس مختلفة. ونتيجة لعدم الرغبة في الوصول إلى هذا الاستنتاج نجد الكثير من الحركات
التي تصارع الليبرالية المنمقة مازالت على ترددها فيما يتعلق بالأهداف الاستراتيجية
لنضالها: ترك أوروبا أم البقاء فيها (الإبقاء على اليورو أم لا)؟ وفي هذه الظروف
تأخذ ادعاءات طرفي الخلاف في التركيز على قضايا تافهة، وأحيانًا حول مسائل مضخمة يروج
لها الإعلام (الأمن، المهاجرون) مما يؤدي إلى خيارات مبتذلة، نادرًا ما تتناول
التحديات الحقيقية. فمثلاً نادرًا ما يثار الخروج من حلف الناتو. ومع ذلك فإن المد
المتصاعد الذي عبر عنه رفض أوروبا (مثل "بريكست") يعني تحطم الأوهام عن إمكانية
الإصلاح.
إلا أن هذا الارتباك مخيف. ذلك أن بريطانيا
العظمى لاتنوى بالتأكيد أن تمارس سيادتها فى طريق يبعدها عن الليبرالية الجديدة،
بل على العكس تأمل لندن أن تزيد من انفتاحها على الولايات المتحدة الامريكية كما
تبدو دول الكومنولث والدول الآسيوية الصاعدة بديلاً عن الأولوية الأوروبية ولاشىء
اخر، ناهيك عن عدم وجود أى برنامج اجتماعى أفضل.
يعلن فاشيو اوروبا عن مناهضتهم لأوروبا
ولليورو. لكننا يجب أن نعلم أن مفهومهم للسيادة هو مفهوم البورجوازية الرأسمالية،
ومشروعهم هو ذلك الذى يبحث عن المنافسة القومية فى النظام الليبرالى الجديد، شريكا
مع الحملات الكريهة ضد المهاجرين. لم يكن الفاشيون أبدا مدافعين عن الديمقراطية ولا
حتى الديمقراطية الانتخابية (إلا لمصلحة)، ولا ديمقراطية متقدمة بالطبع.
وإذا واجهت الطبقة الحاكمة التحدى
فإنها لن تتردد: فهى تفضل الخروج الفاشى من الأزمة. وقد أعطت لنا المثل فى
أوكرانيا. إن فزاعة رفض أوروبا من قبل الفاشيين تشل المعارك الملتزمة ضد
الليبرالية الجديدة. والحجة التى تتردد دائما هي: كيف لنا أن نكون فى نفس الوقت ضد
أوروبا وضد الفاشية؟ وهذا الارتباك يجعلنا ننسى أن نجاح الفاشية هو نتاج هشاشة
اليسار الراديكالي.
فلو
كان هذا اليسار قد دافع بشجاعة عن مشروع للسيادة، واضح فى مضمونه الشعبى
والديمقراطى، مع العمل على فضح مشروع السيادة الكاذب والديماجوجى للفاشيين، لكان قد
كسب الأصوات التى تذهب اليوم الى اليمين المتطرف. إن الدفاع عن وهم إصلاح مستحيل
للمشروع الاوروبى لن يسمح بتفادى الانفجار.
يكشف المشروع الأوروبي عن وضع يشبه إعادة إنتاج أوروبا الثلاثينيات
والأربعينيات: أي أوروبا الألمانية، التي توجد روسيا وبريطانيا خارجها، بينما
فرنسا مترددة بين "فيشي" (الموجودة اليوم) والديجولية (التي مازالت غير
منظورة)، أما إسبانيا وإيطاليا فستبحران باتجاه لندن أو برلين...
السيادة الوطنية في خدمة الشعوب
تعتبر السيادة الوطنية أداة لا غنى عنها للتحسينات الاجتماعية وتقدم عملية
الدمقرطة، سواء في شمال الكوكب أم جنوبه. ويحكم هذه التطورات منطق يكمن فيما وراء
الرأسمالية، بأفق أفضل لنشأة عالم متعدد المراكز وتوطيد دولية الشعوب.
ويجب لمشروع السيدة الوطني في بلدان الجنوب أن "يسير على قدمين":
(1) الانخراط في بناء منظومة صناعية متكاملة وذاتية التمركز، تصبح فروع
الإنتاج المختلفة فيها موردة ومنافذ في آن واحد لبعضها البعض. ولا تسمح الليبرالية
المنمقة ببنيان كهذا، فهي في الحقيقة تتصور "التنافسية" كما تراها كل
مؤسسة بنفسها. ويؤدي تطبيق هذا المبدأ إلى إعطاء الأولوية للصادرات واختزال دور
صناعات بلدان الجنوب في وضعية مقاولي الباطن الذين تسيطر عليهم احتكارات المراكز
الرأسمالية، والتي تستقطع بهذه الوسائل جزءًا كبيرًا من القيمة المخلوقة بالجنوب
وتحولها إلى ريع احتكاري إمبريالي. وفي مواجهة هذا، يتطلب بناء منظومة صناعية
تخطيط سيطرة الدولة والملكية الوطنية للقرار فيما يتعلق بالعملة والنظام الضريبي
والتجارة الخارجية.
(2) العمل بطريقة أصيلة على تجديد الزراعة الفلاحية، تأسيسًا على مبدأ أن
الأرض الزراعية هي منفعة عامة للأمة، ويجب أن تدار بطريقة تضمن لجميع الأسر
الفلاحية النفاذ إلى الأرض ووسائل استغلالها. وينبغي تصميم المشروعات على هذا
الأساس من أجل تنمية الإنتاج للأسرة وللهكتار، وإعطاء الأولوية للصناعات التي تسمح
بذلك. ويتمثل هدف هذه الاستراتيجية في ضمان سيادة الأمة على الغذاء والتحكم في
تدفقات الهجرة من الريف إلى المدينة بما يتفق وإيقاع النمو في التشغيل بالحضر.
ويعتبر التقدم في كلا المجالين السابقين بمثابة البؤرة الرئيسية لسياسات
الدولة التي تكفل توطيد التحالفات الشعبية الواسعة "للعمال والفلاحين".
وهو ما يخلق أرضًا مواتية للتقدم على طريق ديمقراطية المشاركة.
أما في بلدان الشمال فينبغي للسيادة الشعبية أن تقطع الصلة مع الليبرالية
المنمقة، وهو ما يقتضي انتهاج سياسات جسورة تصل إلى حد تأميم الاحتكارات وإدخال
أساليب التشريك على إدارتها. ومن الواضح أن هذا يتطلب إدارة وطنية للسيطرة على
النقد والائتمان والضرائب والتجارة الخارجية.
ويطبق النظام الإمبريالي القائم طائفة متباينة من الطرق تكفل لها السيطرة
على الأمم في أطراف المنظومة العالمية والخاضعة لاستغلالها. وبالنسبة لبلدان
الجنوب التي حققت تقدمًا في بعض قطاعات التصنيع وفق النظام العالمي لتصدير
الأعمال، والذي يتحكم فيه رأسمال الاحتكارات المؤمولة بالثالوث الإمبريالي
(الولايات المتحدة، غرب ووسط أوربا، اليابان)، فقد اختُزِلت إلى وضعية مقاولي
الباطن، وبما يوفر وسائل أساسية يتم من خلالها تحويل كتلة متنامية من القيمة
المولدة في الاقتصادات المحلية التابعة إلى ريع احتكاري إمبريالي. كما تتخذ أنماط
الإنتاج في كثير من البلدان النامية شكل النهب الجشع للموارد الطبيعية (النفط،
المعادن، الأرض الزراعية، المياه، وحتى أشعة الشمس) من ناحية، ومن ناحية أخرى
القيام بغارات مالية للاستيلاء على المدخرات الوطنية في تلك البلدان. وتكون
الوسيلة المستخدمة في الغارات المذكورة هي إعطاء الأولوية لخدمة الديَن الخارجي.
كذلك يؤدي العجز الهيكلي للمالية العامة في تلك البلدان إلى خلق الفرص أمام
الاحتكارات الإمبريالية لزيادة ربحية فوائضها المالية بإجبار البلدان النامية على
الاستدانة بشروط مجحفة. كذلك تبث الإغارة المالية آثارها المخربة في المراكز
الإمبريالية نفسها. فالنمو المتواصل في نسبة حجم الدين العام إلى الناتج المحلي
الإجمالي هدف يسعى إليه بشكل محموم رأس المال المالي القومي والدولي نظرًا لأنه
يسمح باستثمار مربح للفوائض. وهكذا فإن الدين العام المستحق للأسواق المالية
الخاصة يتيح فرص الاستنزاف المفروض على دخول العمال، ومن ثم السماح بمزيد من نمو
الاحتكارات الريعية. وبذلك تتم تغذية النمو المتواصل للامساواة في توزيع الدخل
والثروة. أما الخطاب الرسمي المدعي بتطبيق سياسات لخفض الدين العام فهو محض زيف
كامل، إذ إن هدف تلك السياسات الفعلي هو زيادة الدين لا تخفيضه.
وتواصل العولمة النيوليبرالية هجومها الشامل ضد الزراعة الفلاحية في سيا
وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وقد أدى الانصياع لهذا المكون الرئيسي في العولمة إلى
عملية إفقار/ إقصاء هائلة لمئات الملايين من البشر في القارات الثلاث. وهو ما يقود
فعليًا إلى إيقاف أي محاولة لمجتمعاتنا للنجاح وسط مجتمع الأمم. فالزراعة
الرأسمالية الحديثة، ممثلة في كل من الزراعة العائلية الغنية والشركات الزراعية،
تسعى إلى مواصلة هجومها الكبير على الإنتاج الفلاحي العالمي.
إذ إن الزراعة الرأسمالية المحكومة بمبدأ الربحية لرأس المال الموظف في
أمريكا الشمالية والمخروط الجنوبي بأمريكا اللاتينية وأستراليا، لا تشغل سوى بضع
عشرات الملايين من الفلاحين، ومن ثم تحقق معدل الإنتاجية الأعلى عالميًا، بينما
مازالت نظم الزراعة الفلاحية تشمل تقريبًا نصف البشرية، ثلاثة بلايين نسمة. فماذا
يمكن أن يحدث إذا عوملت "الزراعة وإنتاج الغذاء" كأي شكل آخر للإنتاج
الرأسمالي بالخضوع لقواعد المنافسة في سوق مفتوحة لا تعرف أي نوع من القيود؟ هل
تسهل هذه المبادئ تزايد الإنتاج؟ في الحقيقة بإمكان المرء تخيل إضافة خمسين
مليونًا من الفلاحين الحديثين، ينتجون ما يمكن أن يقدمه للسوق ثلاثة بلايين فلاح
بالإضافة إلى بقائهم في معيشتهم المنخفضة. وتتطلب شروط نجاح هذا البديل تحقيق
انتقالات كبيرة للأراضى الصالحة للزراعة إلى الفلاحين الجدد (أي الأراضى المأخوذة
من المجتمعات الفلاحية التي تشغلها حاليًا)، والنفاذ إلى أسواق رأس المال (لشراء
المعدات ومستلزمات الإنتاج) والنفاذ إلى الأسواق الاستهلاكية. ويستطيع هؤلاء
الفلاحون المنافسة بسهولة مع بلايين الفلاحين الحاليين، ولكن ماذا سيحدث للأخيرين؟
إن بلايين المنتجين غير القادرين على المنافسة ستتم تصفيتهم خلال فترة قصيرة من
الزمن لبضعة عقود.
ولعل الحجة الرئيسية لإضفاء الشرعية على البديل "التنافسي" هي أن
هذا النوع من التطور قد وقع في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر وأسهم في تكون
المجتمعات الحضرية الصناعية ثم ما بعد الصناعية الغنية، القادرة على تغذية الأمة
وحتى تصدير الفائض الغذائي. فلم لا يتم تكرار هذا النموذج في بلدان العالم الثالث
اليوم؟ بالطبع لا يمكن، لأن هذا الزعم يتجاهل عاملين رئيسيين يجعلان إعادة إنتاج
هذا النموذج مستحيلة في بلدان العالم الثالث. العامل الأول هو أن النموذج الأوروبي
قد تطور قبل قرن ونصف باستخدام تقنيات صناعية كثيفة العمالة. أما التقنيات
المعاصرة فهي أقل بكثير من حيث كثافة العمالة. ومن ثم إذا أراد القادمون الجدد من
العالم الثالث المنافسة في الأسواق العالمية بصادراتهم الصناعية سيكون عليهم
اعتماد التقنيات الحديثة. والعامل الثاني هو الانتقال الطويل زمنيًا الذي استغرقته
تلك العملية، كما تمكنت أوروبا من تهجير كبير لفائضها السكاني إلى الأمريكتين.
هل يمكن تخيل بدائل أخرى مبنية على إتاحة النفاذ إلى الأرض لكل السكان
المحليين؟ يتطلب سياق كهذا الحفاظ على الزراعة الفلاحية والانخراط بموازاة ذلك في عملية
تغيير وتقدم تكنولوجي واجتماعي متواصلين. وذلك وفق إيقاع يسمح مع تطور المنظومة
بالانتقال التقدمي إلى التوظيف خارج الزراعة. ويتطلب هذا الهدف الاستراتيجي سياسات
خاصة لحماية الإنتاج الغذائي الفلاحي من المنافسة غير المتكافئة من جانب الزراعة
المحلية الحديثة والشركات الزراعية الدولية. إنه نموذج يتحدى نماذج التنمية
الصناعية والحضرية، حيث يقل اعتماده على الصادرات والأجور المنخفضة (وهو ما يتطلب
بدوره خفض الأسعار الغذائية) ويعطي اهتمامًا أكبر لتوسعة سوق متوازنة اجتماعيًا.
يضاف إلى ما سبق أن تلك الاستراتيجية سوف تيسر التكامل بين كل السياسات،
بما يضمن السيادة الوطنية على الغذاء، وهو شرط إضافي لكي يكون البلد المعني عضوًا
نشطًا في الجماعة الدولية، ويرفعه إلى المستوى الضروري من الاستقلال والقدرة على
التفاوض.
قراءات إضافية
لغرض الاختصار لم أناقش هنا أيًا من المسائل المهمة التالية: نشأة رأسمالية
الاحتكارات المعممة، البلترة المعممة الجديدة، عسكرة العولمة والصراعات على النفاذ
إلى الموارد الطبيعية، العولمة المالية باعتبارها الحلقة الضعيفة في النظام، إعادة
بناء التضامن بين البلدان النامية، استراتيجية النضالات الحالية، متطلبات التضامن
بين الشعوب في مكافحة الإمبريالية.
أوجه عناية القراء إلى كتابي "الانفجار الداخلي للرأسمالية
المعاصرة" L’implosion du capitalisme contemporain كما ألفت الانتباه إلى الهياكل
المؤسسية التي اقترحتها لتوطيد الإدارة الشعبية للقارة في الانتقال بالاقتصاد بما
يتجاوز الرأسمالية (ص 123 – 128 الكتاب المذكور).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire