هل تمثل مجموعة الدول الصاعدة بديلاً للعولمة الفجة؟
د. سمير أمين
(أتناول في هذا المقال حالتي الصين
وروسيا. أما المقال الثالث فقد خصصته لحالات الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا)
يحول الإطار الذي تمثله العولمة القائمة دون ظهور هامش يستطيع
المشروع الوطنى الشعبى المستقل استغلاله للدفع إلى الأمام. فقد أقيم هذا النمط بالتحديد لمنع ذلك، حتى أصبح "لا بديل له" كما يقال، ويتم تكراره بلا ملل.
ويفرض هذا الإطار الانغلاق في نمط "التنمية الرثة" كما سبق وأن وصفتها، أي تنمية قائمة على قاعدة العمل من الباطن لصالح الاحتكارات المعولمة وامتصاصها للفائض المنتج في تخوم المنظومة، والقائمة كذلك على نهب ثرواتنا الطبيعية لصالح استمرار تبذيرها في الغرب.
يقول البعض:
المشكلة عالمية، وبالتالي لابد أن يكون حلها عالميًا. أقول إن الجزءالأول من الجملة صحيح، ولكن الجزء الثاني ليس تابعًا منطقيًا له . فقد أثبتت التطورات الحديثة-
أقصد السلسلة اللا نهاية من "المؤتمرات الدولية" خلال العقود الأخيرة-
أن النظام لن يتغير من خلال قرارات من الأعلى، على أرضية المفاوضات على الصعيد العالمي، في إطار الأمم المتحدة.
فلم يحدث في التاريخ أن تغير النظام الدولي بهذا الأسلوب.
وكانت التغيرات في النظام الدولي التي حدثت في الماضي دائمًا نتاج تغيرات سبقتها "من تحت"، أقصد على المستويات الوطنية.
ذلك لأن الدولة الوطنية تمثل الفضاء الحقيقي، حيث تنبسط الصراعات الاجتماعية والسياسية فتتبلور البدائل، فالتغير الذي قد يحدث هنا وهناك يحوِّل بدوره ميزان القوى على المستوى العالمي فيفتح مجالًا لتحول النظام العالمي.
وينحصر خط العمل من أجل تحقيق التغير المطلوب وطنيًا في الجملة الآتية:
رفض مبدأ التكيف من جانب واحد لما يقتضيه تواصل بسط العولمة بنمطها الراهن، ويحل محله الدفع في تطوير مشروع وطني مستقل، سَمِّه كما تشاء: مشروع وطني، مشروع مستقل، علمًا بأن الاسم المتداول بالإنجليزية هو Sovereign
Project.
اذن يدخل
المشروع المستقل الوطنى الشعبى فى تناقض مع بسط نمط العولمة القائمة ذات الطابع
الامبريالى. وذلك سواء فى مجال الادارة الاقتصادية للعولمة أم مجال ادارتها
السياسية.
بيد أن مفهوم المشروع المستقل هو نفسه موضع تساؤلات فيما يتعلق بمضمونه ومغزاه.
فأصبحت عمليات التداخل الرأسمالي المعولم (والمقصود أنشطة الشركات المتعدية الجنسية الكبرى)
تؤثر في جميع بلدان العالم، وفي جميع قطاعات النشاط. وبالتالي تظل درجة استقلالية القرار الوطني الذي يمكن تصور تنفيذه نسبية ومحدودة.
هذا صحيح اليوم كما كان صحيحًا بالأمس. فلم توجد (ولا توجد ولن توجد) دولة "مستقلة" بشكل مطلق بمعنى أن تستطيع تجاهل ما يحدث على الصعيد العالمي.
لذلك ينبغي أن نتناول موضوع
"المشروع المستقل" بالانطلاق من البحث والنقاش حول قضايا فرعية تخص مختلف أوجه الحياة الاقتصادية والسياسية.
حيث إن الاصطدام بين أهداف العولمة السائدة من جانب وبين المشروع الوطني من الجانب الآخر يحل بالتحديد وبشكل ملموس في المجال المعني.
أبدأ بقضية الثروات الطبيعية.
إذ أصبح التوصل إلى هذه الثروات متحكمًا في تواصل عملية التراكم الرأسمالي المعاصر. فهناك دول تحتاج إلى التوصل لثروات خارج أرضها الوطنية، مثل الولايات المتحدة وأوربا والصين.
وهناك دول تتسم بأن بنيتها أقيمت لتقدم مثل هذه الثروات "للتصدير". ويشكل الشرق الأوسط، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية كتلة من النظم أقيمت بنيتها من أجل تيسير نهب ثرواتها، ولا غير، وذلك بالتعاون بين الإمبريالية السائدة والبرجوازية والدولة التابعة.
فلم تبذل نظم الحكم المحلية مجهودًا يذكر في سبيل إقامة منظومة صناعية مندمجة تسعى إلى أن تصبح متكاملة ومستقلة. بينما التجارب التي أسميتها
"وطنية شعبية" بذلت بالفعل مجهودًا في هذه السبيل، سواء كانت الدول المعنية غير غنية من حيث الثروات الطبيعية
(مثل مصر وسوريا) أم غنية (مثل العراق في عصر صدام حسين والجزائر والبرازيل).
فالسؤال المطروح بهذا الصدد اليوم هو التالي:
هل تستطيع دول الجنوب الغنية بالثروات الطبيعية رسم سياسات جديدة في مجال استغلال هذه الثروات تسعى إلى حفظها للمستقبل (الأمر الذي قد يوحي بخفض مستوى تصديرها لهذه الثروات)
إلى جانب تعبئة الأموال التي يوفرها هذا التصدير من أجل التقدم المعجل في بناء منظومتها الصناعية والزراعية الحديثة؟
وهناك سؤال آخر خاص بالعلاقات بين دول الجنوب الغنية بالموارد الطبيعية والصين
بصفة خاصة. فهل من الممكن إنماء علاقات تعاون صحيحة في مصلحة الطرفين تكون مختلفة عن العلاقات التي تحكم السوق العالمية للموارد الطبيعية.
أقصد هنا علاقات تسعى إلى1 : - توفير إنتاج وتصدير موارد للصين2 . - وحصول الدول المعنية على مساندة الصين في إقامتها البنيات التحتية المطلوبة وتعجيل تقدمها الصناعي.
علمًا بأن "كتلة الدول المانحة" (وقد أسميت هذه الكتلة "نادي النهابين") ترفض بالتحديد استخدام
"المعونات" التي تقدمها في التصنيع!
هناك أوجه أخرى مهمة تتعلق ببسط مشروع مستقل فاعل وأقصد بالتحديد مجالات تخص السياسة الاجتماعية.
فيواجه التوجه نحو مشروع وطني مؤامرات الإمبريالية لضرب هذا الخيار. فلن تستطيع نظم الحكم المستقلة المعنية مواجهة هذه الخطط دون اعتمادها على وحدة شعبها.
ولن تكسب السلطة هذا الاعتماد بمجرد إعلانها تمسكها
"بالاستقلال" بصفته شعارًا بل يقتضي مصاحبة سياسة الاستقلال في المجال الدولي بسياسات اقتصادية واجتماعية تقدمية تخدم مصالح الأغلبية الشعبية.
وأعتقد أن وجود أو غياب مثل هذه السياسات التقدمية اجتماعيًا يمثل المعيار الذي نستطيع على أساسه تبويب تجارب الدول الصاعدة كما يقال.
الصين
هي الدولة الصاعدة الناجحة الصحيحة.
وهي وحيدة في حالها. حيث تنفذ السلطة مشروعًا مستقلًا يسعى إلى:
1- إقامة منظومة صناعية حديثة شاملة ومتكاملة، مستقلة دون أن تكون رافضة المشاركة في الأسواق العالمية
(بل يتخذ المشروع مواقف هجومية في مجال تصدير منتجاتها الصناعية)
2- تمفصل المشروع بإنماء الإنتاج الزراعي والغذائي
(حتى تحقق الصين الاستقلال الغذائي) على أساس قاعدة صلبة من المزارع العائلية الصغيرة (دون أن يصاحبها حق الملكية الخاصة لهذه المزارع).
فهل يستحق هذا المشروع أن يعتبر "وطنيًا برجوازيًا"
أم "وطنيًا شعبيًا"؟ وبالتالي هل هو مرحلة في تطوير اشتراكية الدولة في اتجاه الدفع نحو الاشتراكية؟ أم هو حقبة في سبيل التنمية الرأسمالية؟ تقتضي الإجابة مزيدًا من التحري في الجوانب الاجتماعية التي تصاحب تنفيذ المشروع.
وقد توصلت في هذا المجال إلى أن الإجابة لم تحسم حتى الآن. ولكننى لن أسترسل هنا فى مناقشة هذه الإشكالية، ولو انها تحتل
مقدمة المسرح فى الجدال الصينى الداخلى. سأركز إذن على بيان موجز للتطور التاريخى
الذى أتاح جمع شروط نجاح المشروع المستقل لصعود لا مثيل له فى البلدان الصاعدة
الاخرى.
أقول ذلك لأن
خطاب البنك الدولى ينسب نجاح الصين مابعد الماوية (والمقيس بمعدل نمو صادرات
البلاد لا غير) إلى مزايا السوق والانفتاح على الخارج.
لايفيد هذا
الخطاب المبتذل، كالعادة! فقد حققت الصين فى خلال العقود الثلاثة للماوية
(1950-1980) نمواً غير عادى يصل إلى ضعف ماحققته الهند أو أى بلد كبير آخر فى
العالم الثالث. ورغم ذلك فما تحق فى العقدين الأخيرين من القرن خارق للعادة، ولكنه
لم يكن ليتحقق فى غياب الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التى بنيت فى
الفترة السابقة.
انطلق تاريخ
الصين الحديث من ثورة التيبنج للفلاحين (1855-1865) التى أسقطت سلطة الإمبراطور
والإقطاع ووزعت الأراضى بين جميع صغار وفقراء الفلاحين على قدم المساواة. شتان
مابين هذه الثورة الشعبية وثورة عرابى على سبيل المثال التى اعتمدت على العمد
والشيوخ وأغنياء الفلاحين.
كما أنها ثارت
ضد التغلغل الإمبريالى. وفعلت كل ذلك باكراً جداً، فقد بادر الاستعمار بالعدوان
عام 1840 (حرب الأفيون) أى عشرة أعوام فقط قبل انفجار الثورة. وقد زرعت ثورة
التيبنج بذور استراتيجيا ثورية للطبقات الكادحة متكيفة لظروف تخوم المنظومة
الرأسمالية العالمية الجديدة. فأصبحت سلف الثورة المعادية للاستعمار وللاقطاعية،
فألهمت فكرة ماو.
وقد يسرت بعض
السمات الخاصة للحضارة الصينية نضوجاً باكراً لصحوة هذا القطر القارى. فدخلت الصين
فى مرحلة تجاوز أشكال النمط الخراجى باكراً، قبل أوروبا بخمسة قرون. فألغت سيادة
دين الدولة(هنا البوذية) لإقامة نوع من الفصل بين الدين والدولة (مبدأ الدولة
العلمانية). وحدث ذلك فى القرن العاشر الميلادى (نعم العاشر الميلادى!).
وفيما بعد وصف
ماو الثورة المطلوبة بطابعها "المعادى للاستعمار/ المعادى للإقطاعية/ الشعبي
الديموقراطي"، ولم يقل "الديموقراطية البورجوازية"، والتمييز
المذكور حاسم. فقد انطلق ماو من مقولة مفادها أن "عصر الثورات
البورجوازية" قد انتهى نهائياً، وأن الإنسانية دخلت عصر "الثورة
الاشتراكية"، وأصبحت بورجوازيات تخوم المنظومة العالمية عاجزة عن أن تقود
ثورة؛ فتميل هذه البورجوازيات إلى الاتفاق مع القوى المسيطرة عالمياً – الاستعمار –
وحلفائها من الرجعية "الإقطاعية" المحلية. وبالتالى فإن الثورة المطلوبة
هى ثورة "شعبية" (لا بورجوازية) الطابع.
لم تسمح ظروف
الصين الموضوعية (أى "تخلفها" الموروث من ماضيها وحاضرها) عدا إقامة "اشتراكية
الدولة" فى المرحلة الأولى التى تلت انتصار الثورة عام 1950. بيد أن النمط
الصينى لاشتراكية الدولة، الذى استلهم النموذج السوفيتى فى أول الأمر، أخذ يبعد
عنه فى مجالات هامة، وخاصة فيما يتعلق بقضية الفلاحين.
اعتبر ماو أن
حفظ التحالف بين لعمال والفلاحين الذى جعل الانتصار العسكرى ممكناً، وتكريسه بعد
هذا الانتصار، يقتضى إدارة للعلاقة بين الحضر والريف تقوم على احترام مبدأ المساواة
بين الطرفين. أى بمعنى آخر رفض ماو نظرية "التراكم الاشتراكى الأولى"
التى تلقى عبء تحمل نفقات التصنيع على الفلاحين. واعتبر ماو أن ضمان حفظ هذا
التحالف بشروطه (مساواة الطرفين) هو بدوره يتيح الدفع إلى الأمام نحو دمقرطة
المجتمع. وألقى ماو على الشكل الذى يتيح التقدم فى هذا الاتجاه اسماً هو
"الخط الجماهيرى"
أستخلص من قرائتى
لهذا التاريخ استنتاجين هامين. أولاً: أن الشعب الصينى انطلق من رؤية نقدية
لتاريخة وماضيه، الأمر الذى يحميه من السقوط فى أوهام ماضوية قائمة على خلق صورة
مزيفة للماضى لا تمت بصلة بواقع أمرها. فالرؤية الحضارية الصينية توجه أنظارها إلى
المستقبل، لا الماضى. ثانياً: تمتعت الماوية بمرونة فى نظرها للواقع. فعندما بلغت
مرحلة اشتراكية الدولة حدودها وراحت تتجمد، اتخذت السلطات مبادرات إصلاحية تدريجية
وللانفتاح على السوق، بعد أن رفضت رفضاً وصفة البنك الدولى المنحاز "للعلاج
بالصدمة". فتجنبت الصين ما قاست منه روسيا وغيرها من الدول، أقصد تفكيك
المجتمع والدولة المصاحب لقبول خطة العلاج بالصدمة.
ولكن القصة
لاتنتهى عند هذا الحد، فليس التسوية الاقتصادية والاجتماعية المعمول بها حالياً
ضماناً لاستقرار المسيرة. كلا. وسوف نفتح فى المقال الثالث من هذه السلسلة نقاشاً
حول مستقبل المشروع الوطنى الصينى على ضوء بيان تناقضاته الداخلية الجديدة.
روسيا
عادت روسيا
تحتل فى الساحة الدولية مكانة دولة عظمى مستقلة، ودخلت فى صراع علنى مع الولايات
المتحدة. هل معنى ذلك أن روسيا أصبحت "دولة صاعدة"؟ ليست الإجابة يسيرة.
لعل بوتين يفكر فى إعادة بناء رأسمالية دولة مستقلة لا تخضع لخطط الاحتكارات
الغربية. ولكن السياسة الاقتصادية الروسية لم تخرج بعد عن إطار
"الليبرالية" التى تسيطر عليها الاحتكارات الخاصة الروسية، على النمط
الغربي. ولا تضمن مثل هذه السياسة حصول الحكام على شرعية تدعمها الجماهير الشعبية.
أتذكر حوارًا
جرى بينى وبين بعض المسئولين الروس (اليمينيين) فى أعقاب سقوط النظام السوفيتى.
فقال هؤلاء لى (يكاد يكون بالحرف): "خسرنا الحرب، ولكن سوف نكسب السلم، كما أن
ألمانيا التى خسرت الحرب لم يمنع هذا صعودها الاقتصادى، فسوف نستفيد نحن أيضاً من
تبنى مبادئ الليبرالية الرأسمالية بعد أن تخلصنا من الأوهام الاشتراكية الخيالية".
وكانت إجابتى كالآتى: "أنتم لا تدركون اختلاف الظروف. لقد ساعدت الولايات
المتحدة ألمانيا على نهضتها بعد الهزيمة، لأن وشنطن كانت بحاجة لأن تكون ألمانيا
قوية فى مواجهة العدو الحقيقى القائم وقتها- الاتحاد السوفيتى. ويختلف الأمر اليوم
فليس هناك وجود لأى عدو يذكر أمام الولايات المتحدة. وبالتالى لا تريد وشنطن
مساندة صعود روسيا حتى لا تصبح مرة ثانية قوة عظمى، فالأفضل بالنسبة إليها هو مواصلة
تدمير بلادكم".
كان النظام
السوفيتى قد حقق إنجازات بارزة. فأقيمت بالتدريج رأسمالية دولة ذات بعد اجتماعى
ومستقلة عن مؤثرات الرأسمالية العالمية. واعتمد هذا النظام الاقتصادى والاجتماعى
على تبلور "تكتلات" مصلحية تجمع معاً أصحاب القرار والعمال الفاعلين فى
قطاع إنتاجى معين. فأصبح كل من هذه التكتلات "مركز قوة" يدخل فى التفاوض
(لعل كلمة مساومة تعطى المعنى!) مع مراكز القوة الأخرى من أجل تصميم أهداف الخطة
العامة وتوزيع الفوائد المستخرجة منها: وصار الجوسبلان المكان الذى حلت فيه هذه
"المفاوضات- المساومات". وصارت النقابات جزءًا من المنظومة بصفتها
المؤسسة التى تتناول مسئولية إدارة الشئون الاجتماعية والفوائد المستخرجة منها لصالح
العمال (ضمان التوظيف الكامل، مدارس، مستشفيات، سكن، معاشات الخ).
لقد قام هذا
المنهج بدور حاسم، فحل محل "الربحية" التى تتحكم فى إعادة تكوين التوسع
الرأسمالى. بل أكثر من ذلك أقيم النظام الاقتصادى السوفيتى على قاعدة إعادة توزيع
فوائد التنمية المشتركة لصالح المناطق الأقل نمواً، علماً بأن الشعوب "غير
الروسية" هى التى استفادت من هذا الخط العام الجديد. فانتقل استخدام الفائض
المستخرج من المناطق الأكثر تقدماً (روسيا الغربية، وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق)
للاستثمار فى المناطق الأقل نمواً (سيبيريا، آسيا الوسطى، الجمهوريات جنوب القوقاز).
وساد نظام تماثل ومساواة الأجور والحقوق الاجتماعية. وهو مبدأ يناقض تماماً المبدأ
الذى يحكم الرأسمالية، وهو التفاوت فى مستوى الأجور بين المراكز والتخوم. بعبارة
أخرى اخترعت السلطة السوفيتية مبدأ "المعونة" الحقيقية، وهو مبدأ لا
تزال الرأسمالية تتجاهله فى ممارساتها الواقعية، بالرغم من كلامها حول
"لمعونة الدولية"!
ونجح الاتحاد
السوفيتى فى رفع قواته المسلحة إلى مستوى قوة عظمى. فألحق الجيش الأحمر الهزيمة بالقوات
النازية، ثم استطاع أن يُنهى فى بضع سنوات احتكار الولايات المتحدة للأسلحة
النووية والصواريخ. وخلق هذا النجاح "ثنائية عسكرية" اتسم بها النظام
العالمى حتى سقوط الاتحاد السوفيتى. ولعبت هذه الثنائية العسكرية دوراً إيجابياً
فى ساحة السياسة الدولية، فضمنت لدول التخوم الآسيوية، والإفريقية والعربية
المشتركة فى كتلة عدم الانحياز، هامشاً للتحرك المستقل دون أن تخشى عدوانًا عسكرياً
من واشنطن. فليس من الغريب إذن أن تكون وشنطن قد استفادت فوراً من سقوط الاتحاد
السوفيتى لشن حروب عدوانية ضد دول جنوبية انطلاقاً من عام 1990. لقد فرض الوجود
السوفيتى السياسى فى الساحة الدولية نوعاً من النظام متعدد القطبية.
وأخذ النظام السوفيتي
يتطور نحو الاستقرار الاجتماعى انطلاقاً من عصر حكم خروتشوف. فبلغ حداً من التنمية
أتاح له رفع مستوى المعيشة بشكل ملحوظ ومتواصل .
كان من الممكن
اذن أن يحدث تطور تدريجى نحو مزيد من الفعالية الاقتصادية بالانتقال من نمط تراكم
توسعى إلى نمط تراكم كثيف من خلال فتح باب للتبادل فى السوق (المصحوب بوضع حدود
لعمليات السوق)، ولمزيد من الديموقرطية. بعبارة أخرى كان يحتمل أن يتطور النظام
نحو موقع "يسارى وسطى" يحفظ المستقبل. كما كان هناك احتمال آخر يمكن
حدوثه هو تحجر النظام وهذا هو ما حدث بالفعل.
رعى برجنيف
صعود طموحات الطبقة القائدة المستفيدة من النظام ("النومنكلا تورا") إلى
أن تحول أعضاؤها إلى رأسماليين أصحاب الملكية على نمط بورجوازية الغرب، ثم اعتمد
يلتسين وجورباتشوف على هذه الطبقة من أجل إنجاز "الإصلاحات" المزعومة
تحت عنوان جذاب: "إعادة هيكلة النظام وإضفاء الشفافية عليه". وأثبتت
التطورات التى تلت فراغ هذا الشعار الذى اختفى وراءه مشروع إسقاط النظام بأكمله،
لتحل محله رأسمالية منفلتة ولصالح بورجوازية خرجت من صفوف النومنكلاتورا.
اعتمدت خطة
الإمبريالية- باشتراك يلتسين وجورباتشوف فى تنفيذها– على تبنى وصفة "العلاج
بالصدمة"، التى صممتها رأسمالية الاحتكارات الغربية من أجل تدمير فورى وشامل
لمؤسسات الدولة بحيث يصبح المجتمع عاجزاً فى مواجهة الهجوم المنهجى المخطط. وقد
ساهمت قطاعات واسعة من البورجوازية الروسية، ومثيلاتها فى الجمهوريات المستقلة
الجديدة، فى تنفيذ البرنامج، بل قبلت أن تتحول إلى بورجوازيات تابعة لمعرفتها أن هذا
هو ثمن إثرائها السريع. وترتب على تضافر هذه العوامل إقامة نظام رأسمالى هش الهيكل.
وتم تحول روسيا
إلى وضعية تخومية فى النظام الرأسمالى العالمى المعاصر: فتميل المنظومة الإنتاجية
الروسية إلى أن تنحصر فى قطاعات إنتاج المواد الخامة للتصدير- ومنها النفط والغاز
بصفة رئيسية- فلم تقم الحكومة بإصلاح القطاعات الصناعية والزراعية وهى قطاعات لا
يهتم بها رأس المال الدولى ولا البورجوازية الكومبرادورية الجديدة المحتكرة للسلطة
العليا. وتعانى هذه القطاعات من شح الاستثمار المخصص لها. بالإضافة إلى سماح
الحكومة بتدمير التعليم والقدرات الإبداعية التى كان النظام السوفيتى يحافظ عليها
حفاظ العين. كان نمط التعليم السوفيتى- لا سيما التعليم العلمى- يُعتبر من أرقى ما
أُنجز عالمياً. وقد تم تدمير هذا الإنجاز بأسلوب منهجى صممه "خبراء"
أمريكان.
ثم تم تفكيك
الصناعات التحويلية وبيعت أقسام منها بأثمان رمزية لا صلة لها بالقيمة الحقيقية
للأصول العينية (نموذج بيع القطاع العام فى مصر مبارك ومرسى!) وذلك لإقامة
"منشآت" تعمل من الباطن لصالح الاحتكارات الأجنبية التى تمتص الفائض
المنتج فى نشاطها. أى بعبارة أخرى تبنت روسيا أسوأ نمط من أنماط التبعية الجديدة.
وبالرغم من
قبول روسيا شروط الوصفة الليبرالية الفجة واصلت الامبريالية اعتداءها ونقلت هجومها
الى المجال السياسى بمساندتها مؤامرة فاشية استولت على الحكم فى أوكرانيا. فأزيح
الستار عن أهداف الامبريالية، وهى تخريب الدولة الروسية وليس أقل. لعل بوتين قد أدرك
خطورة هذا التهديد على المصالح الوطنية فاتخذ إجراءات فى سبيل تطوير سياسة خارجية
مستقلة.
ولكن هذه
السياسة الوطنية الروسية الإيجابية، لابد أن تفشل إن لم تكن مدعومة من قبل الشعب
الروسى. ولا يمكن أن تفوز بهذا الدعم على أساس "الوطنية" وحدها. ولا يمكن
أن تقدم الليبرالية الجديدة لروسيا سوى التدهور الاقتصادى والاجتماعى المأسوى. وفى
مثل هذا الوضع، الذى تعيشه روسيا اليوم فى النظام العالمى، ستظل محاولاتها للتصرف
بصورة مستقلة على الساحة الدولية هشة إلى أقصى حد، مهددة بالعقوبات والتى سوف تدفع
حكم الأقلية الاقتصادية إلى الانحياز الكارثى لمطالب الاحتكارات المسيطرة فى
الثالوث.
paper published in a shorter version in Al Ahram, Cairo, on 21/10/2014
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire